القطاع الخاص يدعم رؤية باسيل لتحرير الحزمة العريضة مقابل اعتراض الهيئة المنظمة

حين أنجز وزير الاتصالات جبران باسيل ورقة «سياسة قطاع الاتصالات» مطلع شهر حزيران الماضي، كان البلد بأكمله مشغولاً بالانتخابات النيابية. أجّل الوزير موعد الإعلان الرسمي عنها إلى 18 حزيران. كانت الحكومة بمثابة حكومة تصريف أعمال، وبالتالي تأجل البحث بمضمون الورقة إلى مجلس الوزراء المقبل. بطبيعة الحال، يرتبط إحياء النقاش حول هذه الورقة في السلطة التنفيذية، بالخط السياسي لوزير الاتصالات المقبل، بالإضافة إلى اقتناع رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري بها.
بعيداً عن المستوى التنفيذي، خلقت الرؤية التي قدمها باسيل تجاذبات في أوساط المعنيين في قطاع الاتصالات، لا سيما بين الوزير نفسه وإلى جانبه القطاع الخاص من جهة، والهيئة المنظمة للاتصالات من جهة أخرى.
يرتكز الخلاف فعلياً على موضوع التحرير الكامل لخدمات الحزمة العريضة Broadband وبدرجة أقل حول خصخصة شبكتي الخلوي. فالوزير باسيل لم ينسف في ورقته العناوين العامة للخصخصة التي تضمنها البيان الوزاري للحكومة، بل ركز على «تطوير / تغيير مفهوم الخصخصة من عملية تشجع مصالح الشركات الأجنبية إلى عملية تكون لمصلحة الاقتصاد الوطني والشركات الوطنية قبل أي مصلحة أجنبية، كي لا تنقلنا مثل خصخصة كهذه من احتكار الدولة إلى احتكار الشركات الأجنبية».
هذه المسألة تتم برأي باسيل عبر اقتراح مشروع قانون يقر في مجلس النواب، يهدف إلى السماح ببيع شبكات الخلوي ويحدد شروط البيع ومنها: 1) الحفاظ على أكثرية الأسهم للبنانيين من أفراد وشركات ومستثمرين وصناديق مع إعطاء الإدارة لأي مشغل يفوز بالشراء، 2) إطلاق شركة اتصالات لبنان قبل إجراء الخصخصة، 3) الحفاظ على موارد عالية للخزينة من خلال صيغة تقاسم الأرباح واستعمال المبالغ المحصلة في عملية البيع من أجل إنهاض أي قطاع آخر كالكهرباء، وخفض الدين العام.
أولوية للبنانيين في الخصخصة
تعطي هذه المقاربة لعملية الخصخصة أولوية للحفاظ على ملكية القطاع بيد لبنانيين، وذلك على حساب المبالغ التي يمكن أن يحصّلها لبنان من بيع رخصتي تشغيل شبكتي الخلوي والذي يؤدي إلى تملك الجهة الفائزة في المزايدة العالمية بأغلبية أسهم الشركتين.
تختلف روحية دفتر شروط الخصخصة الذي أنجزه المجلس الأعلى للخصخصة والهيئة المنظمة للاتصالات وأقرته الحكومة السابقة أيام الوزير مروان حمادة، عن مضمون ورقة باسيل. فدفتر الشروط لا يركز على تملك اللبنانيين لأكثرية الأسهم في الشركتين الجديدتين، وإن ذكر فكرة طرح جزء من أسهمهما في بورصة بيروت. كما لا تشترط الهيئة المنظمة قيام شركة اتصالات لبنان قبل إجراء الخصخصة.
لا شك بأن معظم دول العالم التي خاضت تجربة خصخصة قطاع الخلوي، انطلقت في هذه العملية بعد إنشاء الشركة الأم المملوكة بأغلبيتها من الدولة، بالإضافة إلى شريك استراتيجي يمتلك 40 في المئة حداً أقصى من أسهم الشركة. نذكر على سبيل المثال فرنسا (فرانس تيليكوم)، ألمانيا (دويتشيه تيليكوم) والإمارات (شركة «اتصالات»). لكن توجه باسيل بالنسبة لملكية الشركتين الأخريين ينافي ما حصل في الخارج، حيث أعطي الفائزون في المزايدة فرصة تملك أكثرية الأسهم فيهما.
من جهة ثانية، تفتح رؤية باسيل الباب أمام تملك جهات سياسية لبنانية لأكثرية الأسهم في شركتي الخلوي الجديدتين، وذلك استناداً إلى التجارب السابقة، حيث يشتري أفراد لبنانيون الأسهم في البداية، ثم يبيعونها لجني أرباح، فيدخل مع الوقت كبار المستثمرين (معظمهم من الأفرقاء السياسيين) لجمع أغلبية هذه الأسهم.
ترى الهيئة المنظمة للاتصالات هنا، أن موضوع إدراج الأسهم في البورصة يعود إلى حجم الشركة، فإذا كان صغيراً يمكن اللبنانيين تملك أكثرية الأسهم، أما إذا كبُر حجمها، فسيتملك حينها كبار المستثمرين من أجانب ولبنانيين الجزء الأكبر من الأسهم.
الخلاف الأساسي
بعيداً عن خصخصة الخلوي المؤجلة حالياً بسبب الأزمة المالية العالمية والفرص القليلة للحصول على مبالغ مغرية مقابل خصخصة الشبكتين، وضعت ورقة الوزير باسيل رؤية لتحرير خدمات الحزمة العريضة تتعارض إلى حدّ كبير مع توجه الهيئة المنظمة للاتصالات في هذا المجال.
لا شك بأن تقديم خدمات الحزمة العريضة محرر اليوم، إلى حدّ كبير، أي أن شركات القطاع الخاص اللبناني تقدم خدمات الانترنت السريع اللاسلكي «واي.فاي» WiFi وتحصل هذه الشركات على ترخيص سنوي من قبل الهيئة لتقديم هذه الخدمات.
لكن لبنان يحتاج إلى تعزيز بنيته التحتية عبر مدّ شبكات وطنية ودولية، لإتاحة خدمات الحزمة العريضة لجميع اللبنانيين وتحسين نوعية الخدمات لجهة سرعة الاتصال أو حجم المعلومات المسموح بنقلها.
تقترح سياسة باسيل بإصدار ترخيص الحزمة العريضة إلى كل من المشغلين الوطنيين الخمسة وهم شركات نقل المعلومات في القطاع الخاص اللبناني («جي.دي.إس»، «بيسكو»، «كابل وان» و«سيدركوم») والمشغل نصف العام «سوديتيل» (المملوك بنسبة 50 في المئة من وزارة الاتصالات). كما تحصل على الترخيص الشركتان اللتان ربحتا الدعوى في مجلس شورى الدولة الذي أعاد لهما الحق بتقديم خدمات الانترنت، بالإضافة إلى مشغلين جدد يملكون المواصفات اللازمة.
يسمح هذا الترخيص للشركات المذكورة حسب ورقة باسيل، بالمشاركة في البنى التحتية وإنشاء المعدات الأساسية في جوهر الشبكة وتشغيلها، بما فيها شبكة الولوج وشبكة FTT-x التي يجري تنفيذها، البنية التحتية للشبكة الثابتة، العمود الفقري للبنية التحتية للشبكة الثابتة من كوابل ألياف بصرية، وحق استخدام المسالك ضمن إطار المرور والحق في وضع كابلات الألياف البصرية الخاصة بهم. كذلك، يحق للمرخص لهم إنشاء بوابة اتصالات دولية خاصة بهم والتمويل الذاتي للسعات الدولية وحاجتهم من النطاق العريض الدولي إلخ..
أما الهيئة المنظمة للاتصالات فتحتج على إعطاء تراخيص للقطاع الخاص اللبناني العامل في السوق حالياً، من دون إجراء مزايدة عالمية تسمح للبنان بالحصول على أفضل الشروط لبناء الشبكات الوطنية والدولية للحزمة العريضة. وترى الهيئة أن عدد هذه الشركات لا يمكن أن يتخطى الثلاث أو الأربع، بينها شركة اتصالات لبنان، معتبرة أن حصول سبع شركات على ترخيص مسبق، يلغي أي جدوى اقتصادية لمشغلين جدد يريدون الدخول إلى سوق الحزمة العريضة.
وتقول الهيئة إن المشغلين الوطنيين الحاليين يستطيعون المشاركة في المزايدة عبر «كونسورتيوم» يجمعهم في ما بينهم، لكنها لا ترى الجدوى بإعطائه ترخيصا مسبقا، وذلك لخلق المنافسة العادلة وتأمين أفضل العروض للمستهلك اللبناني.
القطاع الخاص يدعم باسيل
أمام هذين التوجهين، وجد القطاع الخاص اللبناني نفسه منحازاً بشكل مطلق إلى توجه الوزير باسيل الذي يعطي الشركات العاملة ترخيصاً مسبقاً ببناء شبكات وطنية ودولية، ويتيح لهم توسيع أعمالهم.
«لا مآخذ لدينا على سياسة باسيل في قطاع الاتصالات» يؤكد رئيس مجلس إدارة «جي.دي.إس» حبيب طربيه، متمنياً لو أن الوزير أنجزها في بداية عهده. ويقول إن شركات القطاع الخاص اللبناني لديها حقوق مكتسبة، بعد أن عملت بين 10 و12 سنة في السوق المحلية.
لا تطالب هذه الشركات حسب طربيه، بالحق الحصري في مجال الحزمة العريضة، «ولتتفاوض معنا وزارة الاتصالات والهيئة المنظمة للقطاع على الكلفة المناسبة لإعطائنا التراخيص، لكن من غير المنطقي أن نحرم من الأولوية، في مسيرة تحرير القطاع».
وعن عدم تحمل السوق لأكثر من أربع شركات، يعلق رئيس مجلس إدارة «كابل وان» خلدون فرحات على ذلك بالقول: «لندع السوق تقرر من يستطيع الصمود في وجه المنافسة»، معتبراً ان نظرة الوزير باسيل شفافة لجهة تحرير القطاع وجعل المنافسة عنوان هذا التحرير.
يؤكد فرحات أن القطاع الخاص اللبناني يمتلك التمويل اللازم للمشاركة في بناء البنية التحتية للحزمة العريضة، لا سيما أن بعض الشركات يمتلكها كبار المتمولين اللبنانيين. ولم يمانع من وضع شروط على الشركات قبل إعطائها التراخيص، بما فيها الالتزام ببناء شبكات ذات جودة وضمن المعايير الدولية.
في الإطار ذاته، يشدد رئيس مجلس إدارة «بيسكو» روني قدوم على أن الاستثمار في الحزمة العريضة يكلف عشرات ملايين الدولارات لا مئات الملايين أو مليارات كما في قطاع الخلوي. لذا تستطيع معظم الشركات اللبنانية العاملة في هذا المجال، توفير التمويل اللازم في الحزمة العريضة.
وقال إن اللبنانيين يتطلعون للاستثمار في الخارج اليوم، وهم يديرون أفضل شركات الاتصالات في الدول العربية، مشيراً إلى أن «بيسكو» أدخلت خدمات الحزمة العريضة اللاسلكية wireless broadband إلى السوق اللبنانية قبل خمس سنوات، حين لم تكن متوافرة بعد في الشرق الأوسط وأفريقيا.
أما رئيس مجلس إدارة «سيدركوم» عماد طربيه فيرى أنه ينبغي «الخروج من عقلية المزايدة لإعطاء التراخيص والتي تعطي الأجانب الأولوية»، مركزاً على أن ورقة الوزير باسيل تعطي حقوقاً مكتسبة للمشغلين الوطنيين الذين عملوا لسنوات في القطاع.
ويشير إلى أن مدّ كابل بحري بين لبنان ومدينة مرسيليا يكلف 7 ملايين دولار فقط، ويؤمن سعات تصل إلى 40 جيغابيت في الثانية، ما يعني أن القطاع الخاص يستطيع تأمين الموارد المالية للدخول في مغامرة الحزمة العريضة.
ينتظر مصير ورقة «سياسة قطاع الاتصالات» شكل الحكومة المقبلة، لا سيما أن بعض الأطراف السياسيين بدأ يطلق الصوت عالياً ضد مفهوم الخصخصة. على أي حال، يحتاج لبنان لتعزيز البنية التحتية للاتصالات في الفترة المقبلة، للعودة إلى مصاف كبرى الدول العربية في هذا القطاع، كما كان الحال منتصف التسعينيات.