أول رواية عن البدو في الصحراء العربية "بنات نعش" للينا هويان الحسن

عالم البدو عالم غامض. وقلما اخترقه احد وتعرف إلى تقاليدهم وأساطيرهم وحكاياهم الأقرب الى الاسطورة، رجال ملثمون يسوحون في الصحراء بأحصنتهم ونوقهم وسيارات الجيب التي استعاضوا بها عن جيادهم. عالم يمور بالحكايا وبالحب المستحيل، والشرف، والوفاء، والصدق، إذا اما اقسم البدوي عن شيء يعني انه صادق وليس بحاجة لشهود ليؤكدوا صدقه.
هذا العالم الخفي، شبه المجهول، اخترقته بدوية مثقفة اسمها لينا هويان الحسن وقدمت لنا رواية بعنوان "بنات نعش" دخلت من خلالها الى التفاصيل في الحياة البدوية المتنقلة بخيامها بين الصحراء السورية والسعودية والعراقية، حيث هذه الصحارى متواصلة، والبدوي يعتبرها كلها وطنه وأرضه، وهنا، البدوي ليس سوى حكاية، خطة، مسار، لهذا سردت لنا لينا الحسن بلغة عربية راقية وبلهجات بدوية ما كنا نعرفها. ومع ان الكاتبة شابة لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، لكن التقاطها هذه المرويات يدل كما لو أنها في الخمسين والستين.. مقتربة من التاريخ والجغرافيا والمرحلة العثمانية وعدم خضوع البدو إلا لزعماء عشائرهم، بحيث يصبح زعيم العشيرة بمثابة رئيس دولة يتفاوض معه العثمانيون والانكليز والفرنسيون والألمان، فإذا كانت لينا قد أهدت الرواية الى زعيم العشيرة المعروف جاسم حسن، الجميلي، انتبهنا الى النبع الأساس لهذه المرويات الهائلة في جمالها ومفاجأتها، الذي كان يجول في الصحراء بسيارته الشفروليه القرمزية، أول سيارة دخلت الى الصحراء في عشرينيات القرن المنصرم .
الرحيل هو عادة البدو بحثاً عن الماء والكلأ، والأبهر ذلك الفارس الذي يحمل خيمته على ظهر جواده مع أن له ما يشبه القصر في بغداد، ورثه وتركه على حاله، "بيت الشعر" خيمة البدو العجيبة، المأوى المتأقلم دائماً مع الطقس عندما يتقلب، والتضاريس عندما تتبدل، والأهم انه متكيف أزلي مع مزاج البدوي، الذي اعتاد تمريناً ممتازاً لروحه. وهو الرحيل بالوقت الذي يشبه حز السكين، ويقود قطيع أحلامه نحو مرعى جديد، يلحق الربيع، من دون تردد، يطوي حبال خيمته، يحمل مأواه على ظهر بعير قوي ويرحل. وهم البدو الذين اصطادوا أيام العثمانيين الوحوش بمختلف أشكالها وأنواعها من أسود وفهود وذئاب. إذ كانت الحكومة التركية تخصص مكافأة مقدارها ثلاثة جنيهات لكل جلد سبع يتم احضاره الى دير الزور. الى ان زالت هذه الوحوش من الوجود.. ويقال أن تلك الأسود والفهود كانت من نوع نادر وها نرى على الغلاف صورة للشمري مع صيده التقطها المستشرق كارل الرضوان في مطلع عشرينيات القرن الماضي خلال رحلة لهما في صحراء النفوذ.
ومن أغرب كما ذكر سابقاً -: "العادات النرجسية التي اعتادها البدو أنهم لا يرهنون على دعاويهم ببينة أو شاهد. البدوي لا يورد عليه شاهد. انما يطلبون اليمين رأساً.. إذ يقولون "كلنا خصوم.. جمعان تقاتلنا فلا يصح أن يشهد بعض اعدائنا علينا".
وإذ يتخلل ذلك قصة عشق مذهلة لهذا الأمير النجدي الذي أذهله جمال ما كانت تسمى "ماران المدلج" من بدو الشام إذ كاد يختنق عندما تمعن بوجنتيها وأنفها. ذقنها المكورة، شعرها يسدل الى أسفل ظهرها شعر بلون ذهبي، تشوبه جعدة خفيفة، ليس من السهل مواجهة جمال يمسك الانفاس. وظن الأمير النجدي انه حاصل عليها. لكنها صرخت بوجهه فجأة "لا تلمسني" ودون ان تتضمن لهجتها الاستجداء أو تلمس الأمان، انما تابعت بلهجة حاسمة، دون ان تزيح عينيها الخلابتين عن عينيه: هل ترضى أن تلمس فتاة تهوى رجلاً آخر حتى العبادة؟ الصدمة زادت من حدة ذهوله بجمالها وجرأتها.. لم يصدق ما نطقت به. لم يتكلم بشيء.. وظن الأمير النجدي أن الساحرات سيجلبنها له.. ولكن دون جدوى.. فظل يغص بها طول حياته ويلعب الثأر دوره في حياة البدو، ولم تستطع كل الحكومات المتعاقبة أن تقضي عليه ولو بالسجن المؤبد.
تقاليد وعادات تتوالى، لم نكن نعرفها, فالعروس ينأوون بها الى البرزة، - وهي خيمة تبنى على عمود واحد في مكان بعيد عن منازل العشيرة لتتم فيها مراسم الدخلة -.
والأمير النجدي الذي صعق بزواج المرأة التي احبها فـ"التذكر ألم رائع عندما نصر على ما نريد وما يريدنا. عندما نشعر بعذوبة حرارة غامضة ترغم الأعصاب على الفلتان.. ربما هذا ما نسميه لاحقاً الحنين، فنشعل كومة كبيرة من تلك الصور الجاثمة حولنا مثل أشباح أليفة. نشعل الكومة الغالية لتحرقنا.. تضرمنا دفعة واحدة.." فـ:"يا إوز.. مثلك الأحلام كائنات مجنحة لا تحط إلا عالياً. حلّق. اغتصب الأفق، تدفق أعتى من نهر عند المصب، إشنق البحر، إستأنف الرحيل مثل مذنّب علّمه السفر أن أدهش المسارات وهي خارج الخارطة". هذه التقاطعات الشعرية للكاتبة لم تسئ للنص، وبدا بتكراره جزءاً من اللعبة الروائية المحكمة. وتتساءل الكاتبة الكبيرة (ألح على كلمة الكبيرة.. مع ان هذه الرواية روايتها الأولى والتي بين أيدينا هي الطبعة الثالثة): هل نحن أتعس مما يجب؟ دائماً نريد ان نصير شيئاً، فنخترع نعومتنا. كثافتنا، لؤمنا، تمهيداً للمخاض النهائي لظلنا الشخصي.. ونلعب مع من حولنا لعبة المصالحة والعدوان" هكذا إذا: الا يحدث ان نسمع ذات يوم ان (بنات نعش) كواكب في السماء اكتشفن قاتل أبيهن وتجتاحهن الحقيقة وتفاجئهن؟ أم ان ثمة مسافرات أخريات سيكحلن مسار الشبهة. يدفعن عجلة الشك..
وتلتقط في سياق هذه الرواية الجميلة أمثال مثل: الحق بالسيف والعاجز يريد شهوداً. أو: المرجلة ما بين حيلة وحيلة والحق يبري اللي سيوفه قاطع، أو: براي الموت واردنا ما نعطي ركايبنا" لكن تلك الجميلة ماران تبقى هي اليقين في كل عشق: "وحده العاشق يحمل وطء الانتظار مثل ميت حين يختلط هاجس الانتظار بوهم الصبر، فالروعة هنا أن ماران أصرت على الزواج من "الأبهر" وهو ملطخ بدمائه ويموت "قبلته بكل ما اوتيت من شغف وتذكر:دمع، ودم، مسك، فارس جريح. تلك الليلة استقبلها عروساً بجرح وولع ثم افلتها من بين يديه ومات. عشقته طويلاً لتتزوجه ليلة واحدة.
هكذا، ثمة مراسم للنسيان يمارسها البدو، فهم يدفنون موتاهم ببطن الأرض دون أن يؤطروا القبور بعلامة ما، دون أي إشارة أو رمز. ولا حتى رمز ديني.. فالموت لديهم حقيقة أقوى من أي شيء.. تضيع قبور أمواتهم في متاهة الصحراء. يوفرون على أنفسهم النحيب المتبادل بينهم وبين المكان، يبترون الصلة بينهم وبين الأمكنة.. عبر الرحيل. يعرفون أننا كبشر، مهما ابتعدنا عن القبور نظل معاصرين لحزننا (...) لهذا، ربما حل البدو مشكلتهم مع الحنين للأمكنة عبر التذكر لها.. هكذا، تعلموا دفن موتاهم ليرحلوا.
وما يفعله الحب بنا ومعنا، يشبه ما يقترفه السرطان مع المحارة.. حين يتربص.. منتظراً بخبث ان تفتح قوقعة المحار على سعتها، حين يكون القمر بدراً.. عندما يرى السرطان ذلك يلقي بالحصى والأعواد داخل فكي المحارة ليبقيهما مفتوحين رغماً عنها.. عند ذلك يستطيع ان يلتهم القلب وعلى مهل.
هناك أيضاً حكاية نجمة التي أخيراً اقترب منها طراد في هذا الحوار:
ألن تتزوجيني يا نجمة؟
إمش بدربك!
ما تقولين؟
ما أتزوجك وعيني تشوف الشمس.

فوضع فوهة بندقيته على خاصرتها، ودوت الرصاصة مع صراخ النساء اللاتي كن قريبات منها، بجرأتها دفعت ثمن حياتها، فالبدويات مثل الرجال شجاعات في مواجهة القدر، ونجمة كانت هي الحب المخترع ليداري هواه المكتوم.
البدو يعرفون تمام المعرفة أن الأمكنة، مثلما تصلح للسكن تصلح أيضاً للرحيل.. وتعاملهم مع الأمكنة ملغوم بأكثر من وجع، مفخخ بأكثر من هزيمة، لا يمكن التفاهم معه بحياد، لأن المكان يتحول بسهولة الى شرط أساسي في الحوار مع الماضي.. يمكن له أن يمنح قلوباً متآكلة من اللهفة.. بعض الهدوء.. إذ كانت لدى شيوخ البدو الذين يمتلك معظمهم بيوتاً واسعة في المدن القريبة من منازل العشيرة.. عادة تأثيث على طراز بيت الشعر فيتحول الى خيمة مفتعلة، كاذبة، وتصطف عدة القهوة الفاخرة للاستعراض في أغلب الأحيان.. أحد الرحالة الأجانب ذكر انه رأى خيمة بدوية مبنية على أحد سطوح بيوت بغداد. وهكذا البدو مفطورون على تحويل كل شيء الى قصة مع مرور الوقت تحولها السنتهم الى خرافة تقيظها شمس الهاجرة.
أسماء عدة تكررت في الرواية شهامة، وفروسية، ومؤامرات وقصص حب تنتهي نهاية مأسوية، ويتشكل من كل ذلك هوية روحية عبر المسافات التي يقطعها الزمن.. وأيضاً تتكون الأسرار واحتمالات الكذب التي تناوش القصص في بعض أحداثها.. أشياء كثيرة في الرواية تركت دون حسم. كأن لها بقية أو بقيات. وبسبب تشابه الأسماء لدى البدو اختلفت القصص بشأن الحقيقة.
وتختم لينا الحسن: "بين طفولتي والآن مساحة شاسعة من الصمت الماكر يذكرني أين ينام أبطال القصص. رغم أني لم أعد أحمل من بداوتي غير نسبي، انتمائي لقبيلة "الجميلة القيسية".. ولأننا عندما نكتب يصير العادي مقدساً.. جاء دوري.. لأكون ذاكرة.
كان جميلاً جداً أن تسجل لينا الحسن كل هذا العبق البدوي في هذه الرواية، لتكشف لنا، كشاشة سينمائية، هذا المشهد الآخاذ بين كثبان الرمل والصحارى اللاهبة بشمسها وعواصفها، رواية آسرة، تقرأ مرات ومرات وتترك ابلغ الاثر في النفس.