شعرُ مربوط إلى الخلف. وجه نضر وابتسامة بيضاء كريمة. خطوات واسعة لجسم مستقيم يبدو أنه ذاهب إلى غده بقامة فارعة. دينا عيد ليست مجرد طفلة هنا. لا. «كنت طفلة عادية من زمان... من لما كان عمري سبع سنين». هي الآن مساعدة منشط. إبنة الثالثة عشرة لديها عمل تقوم به في مركز الاطفال والفتوة في شاتيلا. تنشيط الأطفال. أي تنظيمهم في ألعاب جماعية، وتعليمهم الغناء، وحقوق الطفل. «هني 51 حق. أقولك ياهُم؟». تفضلي. تعد على اصابعها: «حقه يلعب. حقه ينبسط. حقه يتعلم. حقه بالحرية. حقه إنو ما ينضرب... مش كلهون حافظيتهم».
وما أهم الحقوق؟ «اللعب والعلم».
مساعدة المنشط نشيطة. بالكاد تجد وقتاً للحديث قبل ان تركض إلى الاولاد الذين يملأون مبنى المركز بالضجة. هذا يقع في ثلاث طبقات. أمامه فسحة من امتار مربعة قليلة هي ساحة الشعب في مخيم شاتيلا. مكان مفتوح على الشمس. في قلب المخيم. فسحة تكاد تكون يتيمة. يتقاسمها لعب الاطفال مع المهرجانات والنشاطات الشعبية التي تقام في المناسبات. المتبقي للعب الاطفال صيفاً هو الأزقة، ومراكز اجتماعية أخرى مشابهة لمركز الاطفال والفتوة. من المستحيل أن تضم النشاطات الصيفية التي تقيمها هذه المراكز كل اطفال المخيم. وهي تقع في فترة زمنية قصيرة من النهار ولعدد من الاسابيع محدد. تبقى الازقة. نمشي فيها؟
[[[
يجلس الولدان على طرف عتبة بيت، مستمتعين بالشراب الاخضر الحلو يعصرانه في جوفيهما من أنبوبين بلاستيكيين. الوقت ظهر، غير أن المكان شبه معتم. كم سيطول جلوسهما هكذا قبل أن يتحركا إلى مكان آخر مشابه؟ ليس كثيراً. الازقة مكتظة دائماً. الحركة هنا لا تهدأ. الاقصر قامة، والاشد نشاطاً، يبدون غالبية، من الصبيان. الفتاة في المجتمع الفلسطيني، ما إن تكبر قليلاً، حتى تمنع من اللعب في الشارع. يخلو المكان للصبيان. لقّيطة وغميّضة ودرجات هوائية تخوض في الارض الموحلة معظم الوقت، أو يمكثون في مواجهة أجهزة الكومبيوتر في مقاهي الانترنت المنتشرة، أو يجلسون فقط، ويحكون.
الزمرة المتجمعة حول بعضها البعض، عند حافة عريضة، تكاد تشبه الكرات الدخانية التي ينتجها العراك في الرسوم المتحركة. بضعة اولاد أصغرهم في التاسعة واكبرهم في الثانية عشرة. يركّبون قافيات ساخرة على اسمائهم وكنياتهم. يفلت منهم واحد يطارده آخر ليضربه. يعودان بعد الجولة ضاحكين. يتشاحن اثنان آخران في مكانيهما... يتدافع اثنان. وهكذا...
عشرون دقيقة وقت قصير لمحاولة فاشلة لضبطهم. الكلام معهم يأتي في متفرقات. اصغرهم ياسر. عمره تسع سنوات. «هناك... بالزاروب» بيت ياسر. يعود إليه «بالمغرب». ياسر يضربه رفاقه لأنه صغير. يتدخل احمد: «وانت ما بتضرب الاولاد». ابن الثانية عشرة هذا، يبدو صاحب السطوة على المجموعة. يبدو عليك انك صحافي يا احمد. ستجري إذا المقابلات بنفسك. نعطيه آلة التسجيل عله يهدئ من روع هذه الاسماك التي لا تهدأ. يأخذ الآلة في يده. يعبس محدقاً فيها ويقرّبها من فمه: «طب الأولاد ليه بيضربوك؟ فيه سبب..» يجيب ياسر: الاولاد بيتزانخوا علاي. وانا كمان بتزانخ عليهن».
بداية ممتازة، سرعان ما تتحول إلى فوضى، بينما أحمد قرر أن يستخدم المسجلة للغناء، وقد جلس بقربه فتى آخر، مشاركاً في الاداء الضاحك سريع الوتيرة لكلمات مقفاة. هما يؤديان أغنية «راب» لبنانية مجهولة المصدر: «تمويل عمليات. تهريب (...) هيدي هيي الحياة. ضل حامل قطّاعة. فرد بكر وشنطة فيها بضاعة. عيش بسرعة وموت شب. ارهاب عصابات. هون بسجن رومية (...) علِّ الصوت يا بو الصوت. فضي المشط ولك خروط. عالم كبير..»
حيث القوسين والنقاط الثلاث، شتائم لا تنشر. كيف حفظ أحمد ورفاقه هذه الأغنية؟ «بتفوت على الكومبيوتر، بميوزك... بتلاقيها. هيدا واحد كان بسجن رومية عاملها».
حين يتحول أحمد، ضابط المجموعة المفترض، مصدراً لشغبها، يحين الوقت لتركهم. لنعد إلى مركز الاطفال والفتوة من جديد.
[[[
أبو مجاهد، محمود عباس، رئيس المركز. النشاط الاجتماعي الفلسطيني يعمل مع الاطفال منذ وقت بعيد. يقول إن هذه المراكز حاجة في المجتمعات الفلسطينية التي تتعاطى مع الطفل ما إن ينهي مرحلة الروضات، بصفته صار كبيراً. لا يعود أحد يشعره بأنه طفل، ويتغير شكل التعبير عن العاطفة نحوه. تغيير مفاجئ حتى في المدرسة يشكل ما يشبه الصدمة النفسية لهؤلاء. دور مركز مثل الاطفال والفتوة يكون بملء هذه الفجوات في المراحل العمرية التي ينتقل فيها الاطفال. يمكنهم من حقوقهم ومن مهارات حياتية محتاجة ومعرفة إضافة إلى ايجاد فسحة اللعب الجماعي المنظم وورش العمل التوعوية واللقاءات مع الاهالي والتنسيق معهم في ما يخص اطفالهم. عمل ضمن حلقات تبدأ بالأطفال وتكبر إلى الاهل والمجتمع المحلي. وللمركز مهمة تبدو اساسية في دروس التقوية التي تستمر طوال السنة الدراسية من صفوف الابتدائي الاول الى المتوسط الرابع. تقوية يحتاجها ابناء المخيمات التي تعاني ليس التسرب المدرسي فحسب، بل الامية ايضاً
عبير قاسم منشطة في المركز. تقول إن جزءاً من برنامج الصيف الذي يضم خمسين فتى وفتاة، من سن 6 إلى 14 سنة، هو تخفيف العبء عن الاهل ولإخراج الاولاد من الطرقات. الاولاد لا يلعبون في الازقة، تقول عبير، هم إما يصرخون أو يتضاربون في هذه الامكنة الخانقة التي لا ينتج عنها إلا اشكال من العنف لفظية ومعنوية وجسدية. العنف موجود في كل مكان، تقول عبير، لكنه يتضاعف في بيئة تعاني اوضاعاً تتراكم فيها المشاكل الاقتصادية والاجتماعية بشكل مضطرد
المدارس لا تقوم مقام «الأطفال والفتوة» أو «بيت اطفال الصمود» أو «النجدة الشعبية»، على سبيل المثال لا الحصر. ببساطة لأن هذا يبدو ترفاً لا تسمح به صفوف يجلس في الواحد منها اربعون طفلاً، بالكاد تستطيع المعلمة تعليم الاولاد درسهم، لا اكثر ولا اقل
عبير تقول إن الاطفال يتلقون هنا، من ضمن النشاطات الرياضية ورقص الدبكة والرسم والغناء والاشغال وغيرها، توعية بيئية وصحية ومفاهيم مثل عدم التمييز وحل النزاع...
دينا كانت قد قالت إنها تعلمت هنا «اشياء عن فلسطين» لم تكن تعرفها، وهي بدروها حين ستصير منشطة، ستعلم هذه الاشياء للأطفال الجدد
دينا، للمناسبة، بعدما أنهت دورها كمساعدة، انضمت في الطابق الاخير من المركز إلى رفيقاتها ورفاقها، وتدربت على الدبكة. فرحها وحماستها يفوحان في الهواء بينما ترقص
[[[
في الطابق الثاني مجموعة اولاد تردد بأعلى صوتها اغنية، فدائي... فدائي... يا شعبي يا شعب الخلود ينهون الاغنية، ونأخذ من بينهم طفلا اسمر. معتز. عينان واسعتان مفتوحتان على تسع سنوات من الذهن المتقد. من يافا، يجيب على سؤال «من وين»، من دون المرور لا بشاتيلا ولا بفلسطين: «أمي قالت لي أنا واختي واخوي من يافا»
يلعب في كل المطارح. عند أبي مجاهد، «وجنب بيتنا بلعب بالبيسكلات فيه مطرح واسع كتير». وهل تتشاجر مع أحد؟ «أنا؟ لا. بس هني كتير بيتخانقوا. اذا واحد ما حابب رفيقه بيبلش يعيط عليه. هداكي بيقلوا ما تعيط. بيقوم هداك بيلشقوا بالكف. وبيبلشوا ببعض بالأزاز».
بالأزاز؟!
«آه»، يقول، وقد شجعته نبرة الاستغراب في السؤال: «انت شوفهن بالعيد. كل واحد بيحمل لك بامبكشن... كلاشن. وعلى العيون. على البطن. على الاجرين».
يكون آخرون قد تحلقوا حوله. يأتي صوت من خلف: «عمو. إحنا أحسن لنا ما نكبر». تنظيم هؤلاء أكثر سهولة. يكفي الطلب من صاحب الصوت بلطف أن ينتظر دوره، حتى ينتظر
ينتقل الدور إلى محمد، شقيق معتز، وهو في الثالثة عشرة ويضع طبلة في حضنه. يقول إن في المخيم مكانين للعب، واحد هنا والآخر يظل مغلقاً. هل يخرجون من المخيم؟ «إحنا شو علينا؟ إذا فلسطيني ممنوع أطلع برات المخيم؟» ماذا؟ لماذا فسرت الــــسؤال بهذه الطريقة؟ «هـــيك عند الدولة اللبنانية. لاجئ يعني ممنوع. إذا شاب بيطلع من عندنا بيمنعوه».
يقول الصوت الذي لا يريد صاحبه ان يكبر في السن: «ما بيقدروا يستأجروا». يجيبه محمد: «بيقدروا بس يبيعوه ممنوع». يحكي محمد عن حق التملك الذي يمنعه القانون اللبناني عن الفلسطينيين.
يشرح محمد عن اللعب في المخيم: «عندنا ألف لعبة. تنس. فوتبول. عنا، اللهم صل على النبي، غميّضة ولقّيطة وحرقوص... وحرامي وشرطة».
معتز سيتدخل ليوضح عن الحرامي والشرطة: «يعني منكون مثلاً إحنا حراميي وسرقنا كنز. يعني زي خشبة. قال هني الشرطة بيكونوا نايمين. بيصيروا يلاحقونا ويلقطونا
ومنلعب «بقرة» كمان». يكمل معتز شارحاً لكن الباقين يتطوعون لمساعدته فيسكت. خلاصتها: «فريقان يقسم بينهما خط. يعبر واحد الخط، وعليه ان يلمس خصمه ويهرب قبل أن يُلقى القبض عليه. إذا وقع في أيدي الخصوم، يضرب حتى ينطق بالكلمة الممنوعة: بقرة. حينها يطرد من اللعبة. والبقاء للفريق الأقوى.
هل يتضارب الأولاد كثيراً في المخيم؟ محمد يجيب: «إحنا منتخانق عشان شغلات تافهة. ما بيكون فيه تواصل بيناتنا. يللي قدّي منكون معجقين ما عنا تواصل زيادة». ابن الثالثة عشرة يضع بعضاً من الاصبع على مشكلة المراهقة، غير أنه، كمن انتبه على انه إنتقد أكثر مما يجب، يتابع من مكان آخر: «بس إحنا الشعب الفلسطيني أكتر شعب منتعلم بالكرة الارضية كلها. ما حدا بيسقط عنا إلا نسبة خمسة بالمية. انا هلأ بالصف التامن. منّي قليل يعني».
ليس قليلاً محمد. هذا حوار شيق، ينبغي إنهاؤه، فللأولاد نشاطات أخرى قبل نهاية يومهم. علينا ان نفي بالوعد لواحد منهم، الولد الذي لا يريد ان يكبر لماذا لا تريد ان تكبر؟ يجيب وديع الذي انتظر طويلا: «إحنا إذا بدنا نكبر، مستقبلنا ما بيكون حلو».
لماذا؟
ليس لدى وديع جواب واضح. معتز يجيب: «لما نكبر لازم نرجع على فلسطين أحلى شي... وكنت عم احكي عن لعبة البقرة...»
ويتابع الصبي شارحاً تفاصيل سهت عنه في تقنيات اللعبة
اثنين | ثلاثاء | أربعاء | خميس | جمعة | سبت | أحد |
---|---|---|---|---|---|---|
31 | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 |
7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 |
14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 |
21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 |
28 | 29 | 30 | 1 | 2 | 3 | 4 |