تغيرت التفسيرات في الرسائل «المشفّرة» فانطلق «قطار» التشكيل

خرج «الثلث الضامن» عملياً من تعريفه السابق، وتغيّرت معايير «النصف المقرر» من حساباتها السابقة، وسجنت «الحصة الوازنة» نفسها في تفسير ضيّق... فتبدّلت الصورة و«صدحت» صفارة قطار التشكيلة الحكومية إيذاناً بالاستعداد للانطلاق على السكة، التي ستمرّ حكماً بتحويلات متعددة ومحطات متتالية... وأيضاً بـ«أنفاق» مختلفة الطول...
كل ذلك جرى فجأة بعد مرحلة جمود في الاتصالات، مما كشف «ورقة التين» التي كانت تغطي حمولة «الفحم الحجري» المستورد من أجل تشغيل «قطار الحكومة»، بعد أن عجز «الحطب اللبناني» عن تأمين إقلاعه... ولكن من دون ضمانات للمسافة التي سيقطعها بـ«الحمولة المستوردة».
ما الذي تغيّر؟ وما هي القطبة التي كان رئيس مجلس النواب نبيه بري يعرف موضعها وغامر بالرهان عليها لتحديد موعد آخر الشهر لنجاح الاتصالات في وضع الصيغة الحكومية؟
قبل أيام قليلة، وتحديداً خلال الأسبوع الماضي، كانت لغة الرسائل قد ارتفعت نبرتها نسبياً، وهو ما أماط اللثام عن حوار يجري في مكان ما ويحتاج إلى بعض «التزخيم» عبر لعبة «تقليدية» بين المتحاورين، وعلى محورين:
ـ تصريحات سياسية حادة، ولكن منضبطة تحت سقف محدد سلفاً، فيها من التلويح بتصعيد يصل بعضها إلى حدود التهديد، بالتزامن مع تصريحات موازية بالتهدئة والإيجابية، بما يعكس توزيع الأدوار. فأعيد الاعتبار لدعوات تشكيل حكومة من لون واحد في مقابل التصلّب بمطلب الثلث الضامن. وفي الدعوتين ما يؤشر لوصول الحوار إلى حائط مسدود، لولا أن كانت أصوات أخرى تستدرك بالإمساك بحبل الحوار والتأكيد على الإيجابيات والمرونة.
ـ عودة الرسائل «المقنبلة» عبر «صندوق البريد» الساخن بين باب التبانة وجبل محسن في طرابلس، وهي رسائل يعرف المرسل والمتلقي فيها تفكيك «شيفرتها» وقراءة محتواها المكتوب «بخط يد لبنانية» وإن كان النصّ «غير لبناني»...
والواضح أن هذه الرسائل حققت أهدافها، فعادت الحرارة إلى الاتصالات بين المملكة العربية السعودية وسوريا على أكثر من مستوى بعد فترة من الجمود، وترددت معلومات عن زيارة موفد سعودي إلى دمشق استأنف النقاش من حيث كان توقف بين العاصمتين، وذلك بالتزامن مع تحرك فرنسي كان له دور مؤثر في دوران عجلة الاتصالات التي سرعان ما انعكست في بيروت، فساهم ذلك في إنتاج مخارج حلول وصيغة شبه نهائية كان رئيس تيار المردة سليمان فرنجية السبّاق في توصيفها بعد لقائه السفير الفرنسي أندريه باران في بنشعي عندما اعتبر أن «المهم هو أن يحظى الوزير الحادي عشر بموافقة المعارضة» بغض النظر على أي حصة يحتسب...
ويمكن القول نظرياً إن مشروع الصيغة الحكومية قد بات قيد الإنجاز، برغم «النقزة» التي تركها الموقف المصري الذي اختار توقيتاً محدداً للدخول على الخط اللبناني مجدداً عندما عبّرت الخارجية المصرية بلسان متحدث رسمي عن تأييد مصر لحكومة «تترجم نتيجة الانتخابات اللبنانية بشكل عملي لما فيه صالح الدولة اللبنانية والشعب اللبناني». ومع أن الموقف المصري يبدو «حمّال أوجه»، إذ يمكن وضعه في سياق الاستدراك الذي يؤيد مشروع الصيغة الحكومية التي أنتجتها الاتصالات على قاعدة أنها «لصالح الدولة والشعب»، وهنا يمكن الاستنتاج أن مصر لن تعترض هذه المرة على التسوية الحكومية، وأن ذلك يفتح الطريق أمام تحقيق «نبوءة» الرئيس نبيه بري. أما إذا تم ربط الموقف المصري بالإجراءات المتعلّقة بـ«خلية حزب الله» فإنه يقود إلى وضعه في سياق التصعيد عبر تبني الصيغة التي اعتمدتها بعض المواقف السياسية الصادرة خلال الأسبوع الماضي والداعية إلى تشكيل حكومة من لون واحد «تترجم نتائج الانتخابات النيابية»...
أما عملياً، فيمكن القول إن نجاح الاتصالات في تحقيق خرق في الجمود الحكومي يحتاج إلى سبعة شروط لتحويل هذا الخرق إلى إنجاز ينتج تشكيلة حكومية تترجم التفاهم السوري ـ السعودي الذي ما زال مفعوله قائماً، بل وهو يتجه نحو تعزيز مفاعيله:
ـ الأول، أن يقتنع كل الأطراف في الداخل أن ما بعد الانتخابات هو غير ما قبلها، وأن ذلك سيقود إلى حسابات مختلفة للتوازنات السياسية داخل الحكومة تفقد الحسابات الحالية منطلقاتها.
ـ الثاني، أن يدرك الفرقاء بأن لبنان على عتبة مرحلة هدوء بقرار كبير لا قدرة لأحد في الداخل على السير بعكس رياحه في ظل المعطيات الإقليمية والدولية الراهنة، وأن الذين سيحاولون إسقاط هذا القرار، الذي يجدّد تفاهم 1990 الدولي ـ العربي على وضع لبنان، سيكون مصيرهم كمصير من حاول إسقاط ذلك القرار.
ـ الثالث، أن يدرك الرئيس المكلّف سعد الحريري أن لا قدرة له على الحكم في ظل القيود التي يُلزم نفسه بها حالياً، وأن يمنح نفسه هامشاً واسعاً من حرية الحركة خارج حالة الاصطفاف السياسي التي تكبّله بمواقف وأحكام مسبقة تكبح تفاعله مع ضرورات المرحلة الجديدة، وكذلك مرونته المفترضة بحكم موقعه الجديد.
ـ رابعاً، قدرة فريق عمل الرئيس المكلف على تمهيد الطريق أمامه بإزالة العصي الموضوعة «داخل بيته» أولاً.
ـ خامساً، قدرة المعارضة على التفاهم في ما بينها أولاً على حجم التنازلات التي تستطيع تقديمها، أو سقف الأرباح التي يمكن تحقيقها موضوعياً في أي صيغة حكومية، بعد أن ظهر التباين في مواقفها ومطالبها.
ـ سادساً، مرونة المعارضة في استيعاب حالة التموضع التي يكرّسها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط يومياً، والتي يمكن توظيفها في خانة خسارة فريق الأكثرية أكثريته، في حين أن الاستمرار في التعاطي مع قوى 14 آذار على أنها وحدة متراصة إنما يساهم في استمرار أواصر الترابط بين هذه القوى.
ـ سابعاً، أن يترجم الرئيس المكلّف عملياً مضمون التفاهم بين دمشق والرياض بخطوات ومبادرات ومواقف استثنائية كان والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري محترفاً في التفاعل معها وفي الانتقال إلى موقع الشريك في ذلك التفاهم بعد أن جاء إلى الحكم بنتيجته.
قد تكون تلك الشروط ضرورية لإنتاج الحكومة العتيدة، لكنها ستصبح أساسية بعد إنتاجها الذي يخلط الحسابات خارج منطق الأرقام والأعداد، وعندها لا يعود لهذه التوازنات قيمة، ولن يستطيع أحد صرف «شيك» الأحجام في مرحلة قد يصبح فيها السؤال مباحاً عما إذا كانت قوى 14 آذار ستحصل على «الثلث الضامن» في حكومة «التتمة» للرئيس الحريري الأب... برئاسة الحريري الإبن...