أحمد جابر *
تكرار الحديث عن مسؤولية «قوى التغيير»، ليس مملاً، ومما يدفع إليه دائماً، هو تخبط تلك «القوى»، في صوغ مادة مواقفها، وفي نسج شبكة علاقاتها، وفي تقدير حجم نفوذها الفعلي، وفي وصف واقع هذا النفوذ وتصنيفه: أهو زخم موروث في طريقه إلى التآكل؟ أم رصيد ماضٍ مفتوح على عملية نمو حقيقية؟
أيام الانتخابات، مناسبة سياسية ضاجة، تقبل عليها القوى، كمحطات تثمير لمسيرة اجتماع، ولحصيلة برامج، ولفحص قوى. ذلك أن الادعاء يظل سهلاً خارج صناديق الاقتراع... الغالب على «قوى الديموقراطيين واليساريين» وكل المتضررين، أداء سياسي موسمي، ينام بانتظار «فجر» الانتخاب، فإذا صاح «ديك» الاقتراع، انتبه كثيرون إلى أنهم لم يعدوا لهذا اليوم الموعود، سوى اختلاط رؤى، وجردة علاقات «اجتماعية»، وكمية هذر متنقل، بين هياكل إيديولوجيا صائبة وضروب إيديولوجيا خائبة... وسوى «مناضلين» يحاولون ردم خيبات الماضي، وتعويض العمر الضائع، باختراع أوضاع ينتسبون إليها، أو بتعليل وضعيات يلتحقون بها.
قليلة هي المواقع «العصية» على التبسيط والإحباط، وقلة هم «التغييريون» الذين ما زالوا يقرأون الواقع المعروض أمامهم، فلا يستعيرون غيره، يقتربون منه بلا ادعاء، ويقيمون المسافة عنه، من دون إعفاء النفس من المسؤولية حياله.
المسؤولية اليوم مفتاح قراءة، في معرضها، وفي مناسبة تنكبها، ينبغي الإقلاع عن لغة سياسية فيها الحسم والبت والتعميم، والقفز فوق الحقائق، كما يفترض في ذات الوقت، ابتكار لغة سياسية أخرى، فيها المراجعة اللازمة والوضوح المطلوب، والأمانة الصادقة المرتجاة، من «قوى» ما زالت تدعي «وصلاً بليلى» السياسة!
من المجدي الآن، توقف الحديث عن أجسام «تغييرية» مكتملة القوام، إذ لا يستقيم، بعد كل التداعيات اللبنانية، مخاطبة «اليسار» مثلاً، ككل متجانس، ولو بشكل عام، وإن كان من الممكن، استمرار مناداة «مناخ» يساري وديموقراطي... له مشاربه المتعددة، وله أوضاعه الحالية الخاصة، وله أزماته المتشابكة، التي تجعله يقف يتيماً على أبواب الكتل الأهلية الكبرى، ويحاول مقعداً نيابياً، أو يتوسل مشهداً إعلامياً، لا يعلق منه في الذاكرة سوى اسم المحطة الإعلامية التي أوردت النبأ. لا ضرورة في هذا المجال، بل من المستغرب سياسياً، الحديث عن «لا عقلانية» الطوائف وهي تصوغ لوائحها، وتطلق العنان «لمحادلها وقطاراتها». الأجدى التطرق إلى عقلانية الطوائف الكاملة وهي تقدم على ما تقدم عليه، إذ كيف تؤمن الطوائف بغير من يصدّق «نبوءاتها»؟ وكيف تأمن لغير «من اتبع دينها»؟ ثم لماذا يطلب من هذه الطائفة أو تلك التنازل عن جزء من حصصها؟ أي أن تقدم على خذلان محازبيها واختراق مناخها بقوىً منبوذة من صفوفها؟ إذا كان من درس مستفاد في هذا المجال (لمن يريد الاستفادة) فهو أن ميزان القوى تقرره المواقع المادية وليس الألفاظ، وأن انتزاع المواقع من بين أنياب الطوائف، يتم على حاملة قوى اجتماعية، حيّة ووازنة، وليس على حاملة «حسن إدارة» العلاقات مع الطوائف، أو الحضور الدائم في مواسم أفراحها وأتراحها.
ولأن السياسة موازين، يجب الانتباه إلى أن «قوى التغيير» تدفع ثمن هزيمتها البرنامجية، أمام القوى الطوائفية المختلفة، وأنها (القوى) تفاقم الهزيمة، بالهروب الدائم من الوقوف أمام أسئلة تتعدى واقع الحال الصعب، وتسعى إلى فك ألغازه.
من فنون الهروب، تناسل بعض الأجسام اليسارية، التي ما أن تعلن «كسر» قيد التقوقع الإيديولوجي والسياسي، حتى تندفع إلى طوفان الالتحاق بالطوائفي. القفز من تحليل إلى آخر، بلا رقابة اجتماعية، وبلا محاسبة فكرية، في ظل الانهيار العام الحاصل، يزين لبعض «التغييريين» الإيغال في المبادرة، والمضي في الإدعاء. من ذلك، أن يصوغ «الديموقراطيون» المحدثون، استقلال «المحافظين» العريقين. ومنه أيضاً، استخلاص أحكام للبنية اللبنانية، فيها الانصهار والوعي والحداثة، والريادة المستقبلية... رغم أنف كل وقائع المحاصصة، وعلى الضد من هتافات الجمهور الشبابي، المؤيد جهاراً لمسيرة «المصالحة» بين العائلات الروحية اللبنانية!!.
هل يمكن الإقدام على ممارسة انتخابية، من دون مصارحة بحقيقة ما آلت إليه بعض الأوهام اليسارية والديموقراطية؟ إن الهروب من إعلان المسؤولية عن حقيقة المحصلة، يشكل مطعناً في الصدقية، ولا يؤسس لأي خطوة مستقبلية تغييرية، حقيقية... من الطبيعي، ألاّ تجدي المراهنة على النسيان، لأنها تنال من مبدأ المساءلة، ومن الشفافية، اللتين صارتا من «لزوميات» كل إعلان يساري أو ديموقراطي عام.
الإشارة إلى ذلك ليست مخترعة، فقد سبق ليساريين أن استولدوا حركات ماتت يوم الإعلان عنها، ثم لم يكلفوا أنفسهم عناء شرح آلام المخاض، أو الإفاضة في وصف «أحزان» الوفاة!! حيال المشهد الراهن، يمكن القول ببساطة، إن الطوائف عادت إلى مواقعها، بعد رحلة «تحالف» اضطراري لبعض مكوناتها. لا معنى للحديث عن «معارضة وموالاة»، بل عن وضعية هذه الطائفة أو تلك ضمن المعادلة النظامية العامة. لا مدلول لكثرة الأناشيد حول «روح 14 آذار» أو «عصب 8 آذار» فالثابت أنهما بأرواح وأعصاب متعددة. والثابت أيضاً، أنه بعد هذه الفترة «الاستثنائية» الطويلة، أمكن لكل قوة أن تعود إلى جمهورها لأن الجمهور فعلي، وأن تؤوب إلى قاعدتها الاجتماعية لأن القاعدة حقيقية. وانطلاقاً من ذلك، أمكنها أن تستأنف صراعها حول حصتها التمثيلية، وأن تجهد في الإضافة إليها، أو في الحفاظ عليها إذا تعذرت الإضافة... وحدهم «التغييريون» عادوا إلى لا مطرح ذي وزن، لذلك صار الغالب على مناخاتهم الإحباط، أو الدعوة إلى «مقاطعة» الانتخابات. هكذا وضعية متناقضة، ينبغي استنطاق دلالاتها: إذ كيف يعقد «لواء القيادة» «للديموقراطيين» ثم لا يجدون لهم مكاناً؟ وكيف تتسع منابرهم وتضيق قواعدهم؟ ولماذا يكتشفون سريعاً أنهم لم يكونوا أكثر من «مواد الديكور»، في حفلة الطوائف التنكرية؟!
ثمة مجال حقيقي لكل الديموقراطيين، هو مجال إعادة استكشاف مفاصل الإعاقة السياسية اللبنانية، ومجال الوقوف أمام المصاعب الضخمة التي تعترض معالجة أعطاب لبنان البنيوية، ومجال الصدق في إعلان عمق أزمة اليسار ومناخاته، والمصارحة حول صعوبة إعادة بناء مجال لبناني مشترك، والقطع مع أوهام شائعة حول الطوائف وعقلانيتها، والخروج الحاد على الثقافة المتداولة...
خلاصة: خارج «القطيعة» مع السائد، لا إمكانية مرئية لبناء مغاير، عبر الانتخابات أو سواها، من وسائل العمل السياسي الديموقراطي.
* كاتب لبناني