اغتنم هذه الفرصة، بمناسبة تكليف دول الرئيس سعد الحريري تأليف الحكومة اللبنانية، لأنقل الى دولته بعض الملاحظات والافكار بشأن القطاع الزراعي في لبنان، معتمداً في هذه المعالجة على تجربتي كوزير للزراعة سابقاً، في الحكومة الأولى للرئيس رفيق الحريري، عندما تشرفت بأن أكون وزيراً، من تشرين الثاني 1992 حتى أيار 1995، وبعدما خدمت في الوزارة نفسها ووزارة الاقتصاد والتجارة، لمدة عشرين سنة ونيف، وفي منظمة الاغذية للامم المتحدة لمدة 21 سنة.
كما تشرفت بأن أواكب، أخيراً، نشاطات معالي وزير الزراعة، المهندس الياس سكاف ومعالي وزير البيئة الدكتور انطوان كرم، وان أكون مستشاراً فنياً لهما، وأن أمثل لبنان في لجنة التنمية المستدامة للامم المتحدة، في اجتماعها الأخير، من 4 الى 15 أيار 2009.
لن أدخل في تفاصيل الخطة المتكاملة التي وضعتها وزارة الزراعة، بالاتفاق مع مشروع منظمة الاغذية والزراعة للأمم المتحدة، والذي توضحت معالمه، وأودع مقام الامانة العامة لمجلس الوزراء، منذ عهد معالي الوزير الاستاذ علي حسن خليل، اذ يتطلب ذلك بحثاً آخر ومناسبة أخرى.
حسبي، في هذا المقال، ان اشير الى بعض الافكار والمشاريع والبرامج التي نحن في أمس الحاجة الى تنفيذها، اذ لا يمكن التأجيل، امام ما نشاهده من تراخ واستهتار وتردّ للوضع الزراعي في لبنان.
اولاً: الاسراع وتسريع عملية ملء الشواغر في وزارة الزراعة، بدءاً بتعيين مدير عام اصيل، بعدما تمكن معالي الوزير الياس سكاف في الوزارة الأخيرة، من الحصول على موافقة مجلس الوزراء على ملء الشواغر في وزارة الزراعة، وملء 135 وظيفة، واهمها وظائف فنية لمهندسين زراعيين، واطباء بيطريين، ومساعدين فنيين، لأنه، مع الاسف، وصلت وزارة الزراعة من الناحية الوظيفية الفنية الى وضع مأسوي غير مقبول، واصبحت شبه فارغة من المهندسين الزراعيين والحرجيين، والأطباء البيطريين، والمساعدين الفنيين، وحتى الموظفين الادرايين، في الادارة المركزية، وفي المحافظات. ولتوضيح ما أقول افيد انه، منذ ان تركت الوزارة، في أيار سنة 1995، وبعدما باشرت تعيين 72 مهندساً وطبيباً بيطرياً، لم يعين الا القليل من المهندسين والاطباء البيطريين، مع ان الوزارة تخسر، سنوياً، ما يقارب من 15 مهندساً ووظائف اخرى، بسبب الاحالة على التقاعد او بسبب الوفاة.
ثانياً: تنسيق العمل الفني، والافادة من المشاريع المشتركة، مع منظمة الاغذية والزراعة للامم المتحدة، والاتحاد الاوروبي، والصندوق الدولي للتنمية الزراعية، والدول والمؤسسات المانحة الأخرى، لتفعيل العمل الفني في وزارة الزراعة، وتحريك عجلة العمل في الوزارة المركزية والملحقات، خدمة للزراعة اللبنانية وللمزارعين.
ثالثاً: أهم هذه المشاريع هو مشروع الارشاد الزراعي الذي باشرت الوزارة تنفيذه، مع منظمة الاغذية والزراعة للامم المتحدة، ومشروع تدعيم المشروع الأخضر الممول من الصندوق الدولي للتنمية الزراعية ومشروع تدعيم القدرات الفنية والتسويقية الممول من الحكومة الايطالية. وكل هذه المشاريع تأتي مدعمة ومساندة لقدرات وزارة الزراعة وتمكينها من خدمة المزارعين.
رابعاً: لكن كل هذه النشاطات والجهود لن تؤتى ثمارها، اذا لم تتمكن الوزارة من اشراك هيئات المجتمع المدني والاهلي، والنقابات، والجمعيات الزراعية، والوزارات الأخرى، وغرف التجارة والصناعة والزراعة، في عملية التنمية الزراعية والريفية.
خامساً: اهم هذه الوزارات وأقربها الى وزارة الزراعة، على الاطلاق، هي وزارة الطاقة والمياه التي لديها خطة طموحة، لمدة عشر سنين، لتنفيذ مشاريع الري في لبنان. وهذه المشاريع، بالاضافة الى مشروع البحيرات التلية، في ادارة المشروع الأخضر، يجب ان تتقدم بالاولوية على اي مشروع آخر في لبنان.
سادساً: كما قلت في محاضرتي الأخيرة امام اللجنة الزراعية في غرفة التجارة الدولية، يجب اعتماد مفهوم جديد ومتطور للتنمية الزراعية والريفية المتكاملة، ويجب ان نأتي بأفكار جديدة ومتطورة في التنمية الزراعية، تأخذ في الاعتبار عنصر الاستدامة، وحماية البيئة والمحيط، بغض النظر عن زيادة الدخل عند المزارعين. وهذا لا يمكن تنفيذه من دون التركيز على مشاريع التحريج، واعادة الاخضرار الى الريف اللبناني، ومكافحة الحرائق في الغابات، والحفاظ على المراعي وصونها من الرعي الجائر.
سابعاً: وهنا اشدد على موضوع مكافحة الحرائق الذي يتكرر، سنة بعد سنة، ويستفحل في اضراره من دون ان تتمكن الادارات المتعددة المسؤولة من السيطرة عليه، وايجاد الحلول لاطفاء الحرائق في لبنان. والمشكلة، في نظري، لن تحل بهذا النوع من المروحيات التي حصل عليها لبنان أخيراً، وخصوصاً ان الطاقة لمثل هذه المروحيات هي ضعيفة جداً، ونحن بحاجة الى مروحيات بقوة وطاقة أعلى، نتمكن، وان جزئياً من السيطرة على الحرائق. ومن هذا القبيل، اذكر انه، منذ ايار 1995، عقدت اتفاقاً مبدئياً مع شركة "كندا اير" الكندية التي جاءت الى لبنان وعرضت امكاناتها في اطفاء الحرائق، وكانت التجربة ناجحة جداً. ولكن استقالة الحكومة آنذاك، حالت دون تحقيق امنيتي في انجاح المشروع. بالاضافة الى ذلك، يجب أخذ المبادرة، في اسرع وقت ممكن، في توحيد النشاطات بين وزارة الزراعة (مصلحة الاحراج والمفرزة الحرجية)، ووزارة البيئة، ووزارة الداخلية (الدفاع المدني) في انشاء "مؤسسة عامة للغابات ومكافحة الحرائق"، وتعطى الامكانات المادية، والاستقلالية الادارية، للتحرك بسهولة ويسر على الارض، والعمل على اعادة التحريج ومكافحة الحرائق في لبنان.
ثامناً: يجب ايلاء الاهمية القصوى للانماء الريفي المتكامل، بالاضافة الى الانماء الزراعي، وعدم النظر الى الانماء من مفهوم الانماء الزراعي الضيق فحسب، باعتبار ان الريف يشمل نشاطات اخرى زراعية، مع الاعتراف بان الزراعة لا تزال القطاع الأهم الذي يجب الاهتمام به. فاذا نظرنا الى لبنان ككل، نرى ان الانماء الاقتصادي اجمالاً هو انماء غير متواز ومحصور جغرافياً في مدينة بيروت الكبرى وضواحيها. وما عدا ذلك، من الناحية الجغرافية، يجب التخطيط، بصورة سوية ومتوازنة، والتعرف الى الميزة النسبية في الانماء الاقتصادي، في الجبل، والسهل، والجرود، والمرتفعات، والساحل، والاطراف، وتخطيط هذا الانماء الاقتصادي، بناء على ذلك.
تاسعاً: الاهتمام بقضايا التسليف الزراعي المؤسسي، الذي ترعاه الدولة. اذ انه، مع الأسف، لا يوجد في لبنان مؤسسة للاقراض الزراعي، تابعة للدولة، مع ان المصارف التجارية اصبحت ميزانيتها المجمعة تناهز المئة مليار دولار. لكن التسليفات للقطاع الزراعي، لا تزيد عن 1,26 في المئة، من مجموع التسليفات السنوية. المهمة الوحيدة التي اهتمت بها الدولة هي انشاء مؤسسة، شبه رسمية، هي مؤسسة "كفالات"، تعنى بالتسليف الزراعي والصناعي الصغير الحجم. وقد نجحت نسبياً في تأمين بعض القروض الزراعية. ومن هذا القبيل يجب تشجيعها للتوسع في اعمالها، تعميماً للفائدة في جميع المناطق الزراعية في لبنان.
عاشراً: الاهتمام بمفهوم الغذاء والتغذية من الناحية العلمية والتثقيفية، اذا أنه، مع الأسف، ليست لدينا ثقافة غذائية في لبنان. صحيح انه، ولله الحمد، لا يوجد مجاعة في لبنان، في الوقت الحاضر، خلافاً لما كان عليه الوضع في الحرب العالمية الاولى، ولكن هناك اوضاع سوء تغذية وبدانة زائدة، وبخاصة عند الاطفال، يجب التعرف اليها، وخصوصاً في المناطق اللبنانية التابعة للاطراف، والخارج عن مدينة بيروت الكبرى وضواحيها. وهذا المشروع يجب تنفيذه بالاتفاق مع مديرية الاحصاء المركزي، ووزارة الزراعة، ووزارة الصحة العامة، والجامعات المتخصصة في علوم الغذاء والتغذية.
حادي عشر: هناك حاجة ماسة لاعادة النظر في هيكلية التنظيم الاداري لوزارة الزراعة، والنظر في انشاء مؤسسة عامة تشمل الارشاد الزراعي والتعليم للبحوث الزراعية، ومؤسسة عامة أخرى تشمل ادارة المشروع الاخضر، والاحراج، ومكافحة الحرائق، واعطائها الامكانات المادية والمالية والبشرية للتحرك بسهولة ويسر وتنفيذ ما يجب تنفيذه ضمن السرعة الممكنة وقبل فوات الأوان.
ثاني عشر: للمزيد من الشفافية، من الضروري، تعميماً للفائدة ان تنشر التقارير السنوية عن اعمال الوزارات المهتمة بالقطاع الزراعي ومنجزاتها، وبالاخص الريجي في وزارة المال، ومكتب الحبوب والشمندر السكري، في وزارة الاقتصاد والتجارة، ومديرية الموارد المائية في وزارة الطاقة والمياه، ومديرية الدوائر العقارية في وزارة المال. وهذا الطلب هو جوهري ومهم جداً، اذ اننا لا نعرف كثيراً عن اوضاع زراعة التبغ في لبنان، والاموال التي تصرف على هذا القطاع، والمردود المالي من زراعة التبغ على الاقتصاد اللبناني. كما اننا نجهل الكثير الكثير عن مساحات الاراضي الممسوحة على التراب اللبناني، ولدينا شعور أن هذه الاعمال هي شبه متوقفة، نظراً الى عدم توافر الاموال او عدم توافر المساحين الطوبوغرافيين.
ثالث عشر: اتخاذ الاجراءات القانونية والادارية لتمكين المزارعين من الافادة من تقديمات الضمان الصحي والاجتماعي. اذ لا يجوز ان تعامل فئات من المواطنين اللبنانيين خلافاً لجميع العاملين في لبنان، من دون اي سبب سوى انهم يعتاشون من الزراعة، سواء أكانوا اصحاب عمل او عمالاً في الزراعة.
رابع عشر: استصدار قانون تأمين المزارعين ضد اخطار الطبيعة.
خامس عشر: استصدار قانون يعطي الصلاحية لوزير الزراعة بانشاء مكاتب للتسويق الزراعي، عندما تدعو الحاجة الى ذلك، وبناء على طلب الاكثرية عند المزارعين، على ان تكون هذه المكاتب التسويقية باشرافهم وادارتهم، وتشمل، على سبيل الذكر لا الحصر، تسويق منتجات الدواجن والبيض واللحم الداجن والالبان والحمضيات والتفاحيات والفاكهة الصيفية الخ...
وهذا يستلزم ايضاً التوسع في انشاء اسواق الجملة للفاكهة والخضار، واعتماد قانون حديث للتسويق الزراعي الداخلي والتسويق الخارجي والتصدر، وتنفيذ المشروع الرائد لتسويق الفاكهة والخضار في منطقة البقاع.
سادس عشر: التوسع في انشاء مختبرات لتطوير رقابة جودة الغذاء، ودعمها على جميع المستويات، وعدم الاكتفاء بمختبر الفنار، التابع لمصلحة البحوث العلمية الزراعية، والعمل على انشاء الضابطة البيطرية بموجب قانون للالتزام بنظافة مكان العمل والممارسة السليمة.
سابع عشر: بالاتفاق مع وزارة الخارجية والمغتربين، الدعوة الى عقد اجتماع عاجل، باشراف المجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي، التابع لجامعة الدول العربية، والعمل على تنظيم تبادل المنتجات الزراعية بين دول الجامعة العربية، وازالة العراقيل، ضمن اطار اتفاق تسهيل تبادل التجاري والترانزيت، وانشاء منطقة تجارة حرة عربية كبرى.
ثامن عشر: الاهتمام بالاطار القانوني للزراعة اللبنانية:
1 – الاطار القانوني للمنظمات الاقتصادية الزراعية.
- الجمعيات الثقافية الزراعية.
- غرف التجارة والصناعة والزراعة.
- المنظمات الاهلية والمجتمع المدني بموجب قانون 1909.
2 – وضع الزراعة والقانون العقاري، رقم 3339، تاريخ 12/11/1939، ومعالجة موضوع السجل الزراعي.
هذا غيض من فيض، وموضوع الزراعة اللبنانية يستلزم اكثر من مقال. ولكن نكتفي بهذا المختصر، في الوقت الحاضر، آملين ان نعود الى المزيد من التفصيل في مناسبات أخرى. والتوفيق من الله، عزّ وجلّ.
بقلم الدكتور عادل قرطاس
(وزير الزراعة الأسبق، وعضو اللجنة الزراعية في غرفة التجارة الدولية)