سعدى ع
عيتا الشعب :
يستقبلك في رميش، بوابة عيتا الشعب لناحية بنت جبيل في القطاع الأوسط، أهلها المنتشرون مع أشعة الصباح الأولى، يقطفون أوراق الدخان ورقة ورقة، استعدادا ليوم طويل مخصص للشك.
انه موسم التبغ الذي يحوّل رميش إلى خلية نحل. وللشتلة الخضراء هنا دور الجذع في حياة البلدة وبقاء أهلها فيها.
ولرميش «المسيحية» خصوصيتها، هي التي «تكارمت» السلطة معها في عدد رُخص الدخان وفي تسعيرة التسليم، للإبقاء على التنوّع في المنطقة، ولتأمين مقومات الاستمرار.
بالنظر إلى حال رميش، يدرك المرء أن الدولة تعرف، عندما تريد، كيف تمنح المواطنين مصادر رزق تثّبتهم في أراضيهم، بدلاً من التشرد على أبواب رزق مدن.
من رميش إلى عيتا الشعب، كانت الطريق خلال عدوان تموز 2006 معبّدة بالودّ الذي يتناقض مع واقع الطريق المحفرة. يومها، فتحت رميش منازلها لنازحين من ست بلدات محيطة، منها عيتا.
ومن رميش إلى عيتا اليوم، ينسحب مشهد خلايا النحل على الحقول والجلال الصغيرة المستصلحة، في أرض بعلية تعاني من عطش أبدي. حقول تشعرك بأن ترابها المتشقق جفافاً «يشرئب» فوق سطح الأرض، طامحاً نحو ماء السماء الذي لا يكفي للتخزين.
في عيتا، لا يجد الأهالي مجرى جوفياً إلا على عمق سبعمئة متر وأكثر. ما يسبب شح المياه، فظمأ البلدة وقلة زراعة الخضار والأشجار المثمرة فيها. ومع ذلك، لا يجد المرء ألّذ من بندورتها البعلية التي كان أهلها يحملونها إلى فلسطين يوم كانت خلة وردة معبرهم الرئيسي نحو «الأهل الذين كانوا مرتاحين أكثر منّا»، كما يقول الحاج حسين حيدر.
هو في أواخر الثمانينيات من عمره، وقد قضى فترة فتوته وشبابه الأول «يكاري» باتجاه عكا وصفد وحيفا.
خلة وردة نفسها هي التي حفظت اسم عيتا الشعب في تاريخ هذه البلاد. وهي ليست بالنسبة إلى عيتا وأهلها سوى «محطة» واحدة من محطات نضال البلدة التي أدمنت المقاومة منذ اللحظة الأولى لاحتلال فلسطين، ولسان حالها: «النكبة كانت نكبتنا والقضية لم تغادرنا للحظة واحدة».
بلدة قدمت الشهيد تلو الآخر قبل أن يباشر «حزب الله» نضاله، يوم كانت المقاومة فلسطينية وشعبية ووطنية متنوعة. ومع المقاومة الإسلامية، حلّت عيتا في قلب الجهاد، يشدها عنوان رئيسي للنضال «كان وما يزال وسيستمر نفسه»، وفق الحاج حيدر.
تتشابك عيتا مع فلسطين المحتلة في أكثر من نقطة حدودية على طول حوالى ستة كيلومترات: من مركز البياض على حدود راميا، القرية الأخيرة في قضاء بنت جبيل غربا، إلى خلة وردة في أسفل التلة التي تحتضن عيتا، إلى خلال الذرة وجسر وادي السوادة حيث تتلاقى مع حدود رميش. وفي الوسط، تجد موقع البلاطة عند تلة الراهب. هذه نقاط كانت تشكل مجتمعة المعابر الطبيعية نحو الداخل الفلسطيني.
من خلة وردة، نفّذ المقاومون عملية أسر الجنديين في 12 تموز 2006، فشكلت المحطة الأبرز لمقاومة عيتا.. ثلاثة وثلاثون يوماً، وعيتا صامدة بمقاومين ظلوا يلاحقون الغزاة من بيت إلى بيت ومن زاروب إلى آخر. مقاومة تفتخر عيتا بها وإن كان قد نتج عنها سلبها قلبها بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
في القلب، كان تاريخ بناء البيوت القديمة يعود إلى لحظة وضع الحجر الأول فوق أخيه. اليوم، تفرض هندسة عصرية عزلة على كثيرين شعروا بأنهم غرباء عنها قدر غربتها عنهم: «كان بيتي غرفتين وممشى وعليّة وغرفتين للطرشات، وكان من حجارة الطين أو «الكلان»، وكان واسعاً.. اليوم بيضيق خلقي بهيدا البيت كتير، والله انحرمت رغيف الخبز على الصاج»، تقول الحاجة سُكنة محمد صالح التي ولدت في عيتا القديمة، وتزوجت فيها وعادت من نزوحها لتجدها كومة حجارة وتراب.
عن يوم العودة، تقول الحاجة سكنة: «منظر عيتا أنساني الفرحة بالعودة والنصر.. حسيت بدي اقعد تحت حجارة البيت».
بخجل تحافظ عليه وهي تخطو نحو سبعينيات العمر، تروي الحاجة كيف تجتاح عيتا القديمة ذكرياتها، من الولادة واللهو، إلى الحب والزواج من جارها محمود الذي «أصغره بسبعة أيام فقط!».
تستغل ابنة الحاجة سكنة أسف الوالدة من البيت الجديد و«ضيق» النفس الناتج عنه، لتغمز من قناة غرامها بالحاج وذكرياتها في البيت القديم. غمز يزيد من احمرار وجنتي الحاجة وضحك الحاج وإصغاء الأحفاد المتجمعين حول الجدين كأنهم يكتشفون أسرارهما للمرة الأولى.
تسترسل الحاجة سكنة في الحديث عن خصوصية البيوت القديمة لتلامس بسلاسة الفارق ما بين هندستين معماريتين ضاعت بينهما تفاصيل طفولتها وعمرها كله والكثير من ممارساتها الحياتية اليومية.
فقدت عيتا الشعب، بفقدانها قلبها، أو بالأحرى باستبداله، منظومة حياة ونمط عيش، لصالح قوالب إسمنتية اقل ما يقال عنها انها تفتقد أدنى معايير الجمالية.
اجتاحها البناء العمودي كونه يتلاءم مع التكاثر السكاني أكثر من ألامتداد الأفقي للوحدات السكنية الحجرية القديمة، التي كانت بمعظمها لا تتجاوز الطبقتين.
ويبدو أن هندسة عيتا تتغير تبعاً لتغير سلوكيات أبنائها، أيضاً. ويبدو أن الصبايا المتزوجات، اليوم، بتن أقل تعلقاً بالنمط القديم للاستهلاك ومقوماته. وبينما تتحسر الحاجة سكنة على صاجها وخبزه وعلى تربية المواشي والدواجن، ترى الزوجة الصبية التي تستمع لحديثها أن الأسواق تزخر بخبز الأفران الجاهز.
اليوم، تسكن الحاجة في بيت إسمنتي مرتب لا يعجبها. لم يبق لها من حياتها القديمة إلا زراعة التبغ الذي كانت تشك أوراقه ومن حولها «كناينها» وأصهرتها وأولادها وأحفادها، وبالقرب منها طبعاً رفيق الدرب، «بركة البيت»، كما تصف الحاج زوجها.
عن التبغ وعذابه، يحكي الحاج. عن رُخص الدخان التي انشأ عليها أولاده من دون أن يكون مالكاً لقطعة ارض زراعية واحدة، «زراعة التعب هيدي يا بنتي» يقول.
لدى الحاج رخصة ونصف الرخصة لزراعة التبغ، أي ما مقدراه ستة دونمات زراعية، ولابنه الكفيف رخصة واحدة. يضمن الحاج محمود، أي يستأجر، 15 دونماً من الأراضي، ويسـتأجر رخصاً من مزارعين يعجزون عن زراعتها، بمئة دولار للرخصة الواحدة، ويبدأ العمل.
لو يحتسب الحاج كلفة استئجار الأرض والرخص واليد العاملة اللازمة، وكلفة الري الضرورية، لخرج من «المولد بلا حمص»، كما يقول المثل. لكن، من مميزات زراعة الدخان أنها تعتمد في الجنوب على العائلة بأفرادها كافة. فتجد يد ابن الثلاث سنوات منخورة بميبر الشك، ويد الفتاة الصغيرة «محناة» بندى أوراق التبغ المقطوفة مع الفجر.
تمتص شتلة التبغ غالبية أيام الحاج محمود وعائلته الكبيرة، كما تفعل مع كل الجنوبيين. تبدأ زراعة المشاتل مع بداية كانون الأول. يستمر «التشتيل» إلى أوائل نيسان، ثم يحين موعد «الثنوة» الأولى، وهي قطاف الوريقات الطرية، في أوائل شهر حزيران. ومعها، يبدأ الشك. القطاف يتم قبل انبلاج شمس الصباح، كي لا تجفف أشعتها الندى «القطفة»، فالندى يسهل عملية الشك برمتها.
ومن حزيران إلى أوائل آب، تنشغل العائلة كلها بالقطاف والشك، تبعاً لدوام جدّي يبدأ عند الثالثة والنصف من فجر كل يوم ولا ينتهي قبل الواحدة ظهراً، بمعدل عشر ساعات يومياً.
بعد آب، وبالتحديد في أيلول، يحين موعد «التصفيط»، أي تنضيد صنادل الدخان المشكوكة، ثم تجهَّز للتسليم في كانون الأول أو على رأس السنة.
تتدخل الحاجة سكنة: «يعني بس يكون عندك موسم تبغ، بتهون عليك عيشتك. بتتجرئي تتديني من الدكان وبتدفعي على الموسم». لا يسلم الحاج والحاجة موسمهما إلا وقد بلغت ديونهما ما يستهلك الإنتاج، «يعني سدة بدة»، تقول الحاجة.
من التبغ ينتقل الحاج إلى إعادة الإعمار: «لم تكتمل حتى اليوم».
قبض أولاد الحاج عشرة آلاف دولار لكل من منزليهما، وهما بانتظار الثلاثين ألفا المتبقية لإكمالهما: «ارتاحت نفسية من أعاد إعمار منزله وسكن مستقرا»ً، يقول الحاج: «لكن من أين الراحة لمن لم يعرف سقفاً آمناً بعد؟».
تنضح منازل عيتا الشعب ودكاكينها بخبريات إعادة الإعمار ومشاكلها. عتب يبرز هنا على «حزب الله»، وعتب ثان على من تولوا التقدير الأولي، وعتب ثالث على إعادة التخمين والتقدير، وكثير العتب على الدولة التي استكانت بطرحها المسؤولية على دولة قطر لإعادة إعمار عيتا الشعب، كما قرى جنوبية أخرى: «الدولة لم تعوض عن الخسائر الزراعية ولا عن المواشي ولا عن الآليات حتى».
يقول رئيس بلدية عيتا الشعب عبد الناصر سرور: «عيتا بالكاد بدأت تستعيد وتيرة حياتها الطبيعية بعد ثلاث سنوات على العدوان، ليس سهلاً ما حصل في عيتا».
يوافق سرور على ملاحظات الأهالي حول عملية إعادة الإعمار التي يقول انها «أنجزت بنسبة تسعين في المئة، بشقيها الترميمي والبنائي»، مؤكداً أنه «تتم حتى اليوم صياغة ما تبقى ومراجعة المعنيين والملفات العالقة لتقديمها إلى القطريين للموافقة عليها».
ثم يصر على شكر دولة قطر بشخص أميرها، على «إعادة إعمار عيتا وعلى كل الجهد الذي بذل لإعادة الحياة إلى البلدة التي شهدت تدميراً قلّ نظيره».
يرفض سرور ما يدور هنا وهناك عن محسوبيات في التخمين وعن خلل في التوازن الاقتصادي الناتج عن التعويضات، ليرد التأخير الحاصل إلى «مشاكل تقنية تتعلق بالكشف والاعتراض»، معتبراً ذلك «طبيعيا في كارثة تدمير كالتي وقعت في عيتا». ويؤكد أن الأمين العام لحزب الله «يرفض أن يبقى انسانا مظلوماً وأن الحزب سيدفع ما لا يتبناه القطري».
ولقضية التعويضات على الخسائر الزراعية والتجارية والمواشي قصص وليس قصة واحدة بعدما «اتلف العدوان موسم العام 2006، وبارت أراضي عيتا في العام 2007 بسبب بقاء أهلها خارجها وبسبب القنابل العنقودية. كما شهد عام 2008 موسماً جزئياً». اليوم، ووفق سرور، «تنتظر عيتا موسماً كاملاً».
اقتصار التعويضات على إعادة الاعمار من دون الزراعة والمواشي والمحلات وكل الخسائر الأخرى، خلق في عيتا أوضاعا اقتصادية صعبة: «بعض الناس يخشون الخروج إلى الطرقات بسبب الديون المتراكمة عليهم في الدكاكين وعند الباعة وللناس والجيران»، يؤكد الحاج محمود، فيما تشير الحاجة سكنة إلى إن احد جيرانها «يدين لدكان ابن محمد رشيد وحده بخمسة ملايين ليرة، بيقولوا يا دللي ما بيقدر يقوم من تحت الديون».
يرى الحاج حسين حيدر الذي كان يرافق والده في رحلاته التجارية إلى فلسطين المحتلة، أن عيتا اشتهرت طويلاً بفقرها: «من عمري والفقر كتير بعيتا»، يقول الحاج.
ما تغير في عيتا، بالنسبة إلى الحاج، ليس المال الذي «فاش» على سطوح إعادة الإعمار والمنازل الإسمنتية «البشعة»، كما يصفها، وإنما إحساس الأهالي بالحرية والكرامة.
من صغره والحاج حيدر يعرف أن «إسرائيل تنط وتصبح في عيتا كلما استحلت واتمحلت». ويكمل: «اليوم صرنا أحرار ورؤوسنا مرفوعة والإسرائيلي بيعمل مئة حساب لكل تحرك على الحدود، وهذا هو الأهم».
يستحضر الحاج من ذاكرته سجنه في فلسطين المحتلة: «كنت أرعى بقراتي عند خلة وردة، عندما حضر الإسرائيليون وساقوني بتهمة مساندة المقاومة آنذاك». اليوم، لا يمكن أن يصحو مواطن في عيتا ليرى الجندي الإسرائيلي يتمختر فيها ويقطع الحدود كلما عنّ له ذلك: «الوضع تغيّر يا بنتي وصارت علاقتنا فيهم علاقة الند للند».
يميز ابن عيتا أبو حسن (علي باجوق)، بين الجهاد في «حزب الله» وبين التنظيم فيه: «أنا انحني للجهاد وانتقد البيروقراطية»، وهو قضى عشر سنوات من عمره في صفوف المقاومة، «وما زال قلبي وروحي وعقلي واثنان من أولادي معها».
بالنسبة إلى أبي حسن، «هناك من أخذ أقل من حقه وهناك من قبض أكثر من حقه نتيجة أخطاء بعض الأشخاص الذين عملوا على الأرض، والملف ما زال مفتوحاً».
خسر أبو حسن محله لبيع ألعاب الأطفال في خلال عدوان تموز، فوقع تحت الديون ولم يتم التعويض عليه بقرش واحد.
دفع «حزب الله» مبلغاً رمزياً سمّي «هدية» وليس تعويضاً، لأنه لا يخضع لقواعد التعويض. وقف أبو حسن على قدميه، مستنداً إلى سمعته الجيدة بين تجار الجملة، وأعاد تغذية المحل بكل ما يحتاج اليه من بضائع.
إلا ان وضع عيتا الشعب ومعها الجنوب كله بعد الحرب، أدّى إلى عدم تحريك العجلة الاقتصادية. فلم يتمكن أبو حسن من تحصيل كلفة مشترياته. رد بضاعته إلى أصحابها، وتوجب عليه سداد ما صرفه من المبيعات: «يعني إذا بيشتكوا عليّ اليوم، أكيد بيحبسوني»، يقول الرجل بصوت يفيض بالمرارة والحسرة.
يروي أبو حسن الكثير ليقول ان «السيد يجب أن يعلم بما يدور بعيداً عنه، فأنا مؤمن بأنه لا يعرف ببعض التصرفات التي تنال من الحزب ومصداقيته، ولأنني لا أريد أن استمر في العيش على ما يرسله لي ولدي من أفريقيا».
يصر مختار عيتا الشعب حسين حريص على الفصل بين الآراء المختلفة، وهو يحاول أن يهدئ من روع أبو حسن: «لا تخلطوا بين الآراء»، يقول.
يفضل المختار أن يتحدث عن تاريخ عيتا في المقاومة وعن شهداء كثر قدمتهم منذ وقوع نكبة فلسطين وحتى اليوم. ويعرج على عملية إعادة الإعمار ليقول ان هناك مشاكل كثيرة، «لكنها ستأخذ طريقها إلى الحل بالتأكيد مع إعلان «حزب الله» أنه لن يترك مظلوماً بين الأهالي».
تترك عيتا متطلعاً نحو بيروت لتحضرك خاطرة - سؤال: عيتا بعيدة عن العاصمة بكل ما يمكن للبعد أن يعني.. ترى، هل تعرف الدولة بوجودها؟ هل يذكر رجال الدولة أن لبنانيين يعيشون على خط التماس مع الإسرائيلي، يحرسون المكان، يرفعون الرأس، ويستندون إلى ما انجزته سواعد ابنائهم؟
اثنين | ثلاثاء | أربعاء | خميس | جمعة | سبت | أحد |
---|---|---|---|---|---|---|
31 | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 |
7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 |
14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 |
21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 |
28 | 29 | 30 | 1 | 2 | 3 | 4 |