المأكولات العضوية بين الغلاء والضرورة الصحية

طار الوالدان بابنهما الصغير إلى الطبيب، إذ شاهدت الأم بقعة حمراء تتسرّب من ثغره. الولد ذو السبعة أشهر لم يكن يبدي أي إشارة ألم. كان يتطلّع مشدوهاً بوالديه المتوترين المستعجلين.

وصلا إلى طبيب الأطفال وصعدا سريعاً ودخلا العيادة. الطبيب لم يكن مستعجلاً مثل الوالدين الملهوفين. حمل الصبي الملفوف بطبقات من الأقمشة على أنواعها. حدّق بالطفل جيداً وابتسم أمام حدقات الأهل المتّسعة غضباً واحتجاجاً على سخرية الطبيب وبرودة أعصابه.

«ابنكما بخير. البقعة الحمراء على فمه، سببها الدواء الأحمر الذي وصفته له. وهي ليست دماً، كما توهّمتِ، يا مدام! ثم إن هذا الولد ليست لديه مناعة ولن تتكون لديه مناعة، إذا استمررتما بمعاملته على هذا النحو من الإحكام».

وبينما الطبيب مستغرق في الشرح والطمأنة، أخذت ملامح وجهي الوالدين تنعم وتهدأ، وأخذ هو ينزع الأغطية والثياب عن الطفل، كمن يقشّر موزة. ثم رمى به كما خلقه الله على التراب في حديقة خلفية للعيادة وأعطاه بيضة مسلوقة (مقشّرة، بالطبع) وفَلَته «يرعى».

جنّ جنون الوالدين بصمت، وجنّ جنون الصبي فراح يناغي ويتمرّغ في التراب، مثل الكر.

كان هذا أول احتكاك له بـ «الوسخ» أو... بالطبيعة (لا بالسموم)! وعلّل الطبيب فعلته بأنها تجعل الطفل يكتسب مناعة، مناعة طبيعية: «تدخل الميكروبات فيكافحها الجسم. قد يتعرّض لنكسات والتهابات، ولكنه مع مرّ الوقت يصلب عوده، ولا يعود يتأثّر بها»، ختم الطبيب محاضرته.

حال هذا الطفل، كحال الزرع. المزروعات أيضاً مقسّمة إلى عالمين: مزروعات يحميها المزارعون بالكيماويات (أو السموم) ويدثّرونها بالأغطية البلاستيكية ويدفّئونها بالمدافئ... وهذه تشكّل الغالبية التي تغزو الأسواق والبيوت والبطون. وهناك مزروعات أخرى خالية من السموم، تحميها الطبيعة وحشراتها والمواد التي تفرزها، وانتشارها أقل، أو بالأحرى نادر كندرة مرور شخص أريستوقراطي في مكان عام.

والحق أن «الجنس» الأخير من الزرع كان هو الشائع في ما مضى، قبل عصر الآفات والتلوّث والطلب والاستهلاك السريعين والتبذير. ولكنه (أي المزروعات الطبيعية التي أصبحت تكنّى حديثاً بـ «الأغذية العضوية») كانت تظهر في حينه، في مواسمها فقط. وكانت تختفي في غير مواسمها. والمستهلكون كانوا يفتقدونها، بل يشتاقون إليها.

ومع استفحال الطفرة، بتنا، نحن المستهلكين، لا تُحرم أعيننا من شيء، يبقى الباذنجان والخس والبرتقال وكل الأغذية الطازجة أمام مرآنا كل أيام السنة...

والكلام على الزرع كان تمهيداً لحديث أكثر تشويقاً عن المأكولات العضوية، مع هيفاء عباس والدكتور رامح الشاعر، في متجر «المرج أورغانيك فود»، في شارع عبدالوهاب الإنكليزي ببيروت.

الشارع ذاته، لم يعرفه أو يجهله، يفتح الشهية، لكثرة المطاعم الفاخرة فيه وأبنيته العتيقة الجميلة.

ومتجر «المرج»، اختصاراً يقع هناك في تلك البقعة الهانئة من بيروت. والحق أن المتجر «ارتكاس» و «ترداد» لمزرعة رامح الشاعر، الطبيب والمزارع (كما يقول عن نفسه) التي تقبع في جرود اللقلوق (شمال بيروت).

المزرعة والمتجر قاما على فكرة، فكرة مثمرة وتتوخى الربح، تحلّق حولها ناس ومهتمون بعافية البشر، ولها دوائر علاقاتها واقتصادها. والمراقبة الدقيقة والتنسيق والتعاون شروط أساسية لتحقيقها. وهدفها تأمين الأكل الصحي وإشاعة أسلوب عيش ومأكل.

«المرج» واجهة للمنتجات العضوية

بدأ حديث هيفا عباس ورامح الشاعر، بشرح مميزات الطبيعة في لبنان، فلفتا إلى ميزة الارتفاعات المختلفة، لكون طبيعة لبنان جبلية، وتالياً إلى تعدد المواسم وتنوّعها مع اختلاف الارتفاعات.

ومن هنا، يندرج منطق التعاون مع المزارع الأخرى لتأمين الأغذية الصحية لأطول وقت ممكن في السنة. ومتجر «المرج» يشكّل همزة الوصل، «من دون وسيط»، كما يصرّ الشاعر، بين منشأ المنتجات الزراعية والمستهلك. ذلك أن «المرج» يخالف قليلاً دوائر العلاقات التجارية السائدة. فالعلاقة بينه وبين المزارعين مباشرة. ولدى «المرج» ما يكفي من الخبرات في اللحم ومنتجات الحليب والحبوب والخضار. ويتوزّعون على المزارع العضوية المنتشرة في كل أنحاء لبنان ويختارون ما يتوافر من منتجات.

ويؤمّن المتجر الحاجات الأسبوعية من الأغذية للعائلات. وأحياناً، هناك أصناف تكون غير متوافرة. ومن هنا، يفرض التنسيق نفسه على «أهل المجتمع العضوي» – إن جاز التعبير. ذلك أن المحصول لا يكون دائماً بالكميات الكافية، نظراً إلى الانتشار القليل للمزارع العضوية في لبنان.

تعريفاً، المزارع العضوية هي تلك التي لا تُستخدم فيها الكيماويات، بل تترك الطبيعة المحيطة بها تعالج الآفات، ولو على حساب بعض الخسائر. ففي مزرعة اللقلوق مثلاً، تجاور البقع المزروعة بقعاً «بُوراً» فيها نبات بري. ويشرح الشاعر هذا الأمر بأن الحشرات التي تعيش في النباتات البرية تتغذى من الحشرات والبكتيريا والآفات التي تضرب المزروعات. وهذا يشكّل نظاماً بيئياً متكاملاً يحمي ذاته بذاته. ولتحقيق ذلك، لا مفر من الصبر واحترام الوقت.

انتشار الثقافة « العضوية»

فكرة المنتجات العضوية تدفع أيضاً إلى قيام مشروع آخر مربح، عنوانه «الأكل الصحي واللذيذ بالسعر المقبول»، وقابل للانتشار. ذلك أن أسعار المأكولات العضوية مرتفعة، بخاصة في المتاجر الكبرى. وقد قام متجر «المرج» على علاقة مباشرة بين المنشأ والسوق، و «طرد» الوسيط، وتالياً خفض السعر تلقائياً (من نسبة الوساطة).

ويعمل الشاعر وعباس ومعهما مجموعة من المهتمين والناشطين على تطبيق أفكار للترويج للمنتجات العضوية وفوائدها وثقافتها وإدخالها إلى المطابخ الأخرى. ومنها: تعريف العامة على فوائد المأكولات العضوية، ليس فقط في ندوات ومنشورات، بل أيضاً من خلال زيارات للمزراع وشرح المعالجات «الطبيعية» للأطعمة، وهذه هي أصلاً في متناول العامة، ولكن أحداً لم يلفت انتباههم إليها.

ولعلّ من أبرز أفكار التثقيف، دعوة الطهاة العالميين إلى التعرّف على بعض المكوّنات «الخصوصية»، من قبيل حامض الحصرم (والحصرم في العنب قبل النضج). وقد يدخل هذا الحامض في مكونات مأكولات أجنبية، لا يزال طهاتها على جهل به.

لا تزال المنتجات العضوية بعيدة المنال، والطريق طويل والنيات موجودة.

لدى عباس والشاعر أمل الانتشار والتوسّع، ويعوّل الشاعر في نهاية المطاف على أن «من يعرف طعم فمه يعرف طعم الحياة».