المدينة التي رست على شاطئها حضارات ... فنسجت تاريخها وتركت آثارها صيـدا «سيـدة البحـار» تشرّع سحرهـا لسياحـة مهملـة رسميـاً

محمد صالح
صيدا:
تعتبر مدينة صيدا أو «صيدون» أو سيدة البحار من المدن أو المناطق السياحية المهمة جدا في لبنان.. فهي مدينة تضج كل عتباتها وعموم مساحتها الإدارية أو الجغرافية من مدخلها الشمالي حتى جنوبها بأهم المواقع الأثرية والتراثية وبحضارات تعود إلى ما قبل خمسة آلاف وستة آلاف سنة. وما تزال شواهد الحضارات التي تتابعت على المدينة ماثلة للعيان من مواقع وقلاع وحصون ومعابد وغيرها، لتحكي فصولا من حياة شعوب مرت في حوض البحر الأبيض عبر الزمن. وما تزال الاكتشافات تتوالى في عاصمة الجنوب يوما بعد يوم.. إضافة إلى كون «صيدون» القديمة تعتبر من أهم المدن التاريخية القديمة التي ما تزال تحافظ على رونقها وطابعها المعماري التراثي كمدينة مأهولة سكانيا ..
وإلى الآثار، تتمتع صيدا بشاطئ رملي جميل يفرد لونه الذهبي من شمالي المدينة حتى وسطها.. وهي إحدى أعرق المدن التاريخية المأهولة في العالم. وتعتبر الحفريات دليلاً على موقعها السياحي والتاريخي وهي التي أثبتت وجود تابوت للاسكندر الكبير في متحف TOP KAPI توب كابي» في اسطنبول، إضافة إلى التحف الهامة الموجودة في متحف «اللوفر» في باريس ومتحف الجامعة الأميركية والمتحف الوطني في بيروت ...
ولكن ؟.
ولكن صيدا ينقصها الكثير حتى تصبح مدينة سياحية بالمواصفات العامة والخاصة للمفردات المتعلقة بالمدينة السياحية الجاذبة للاستثمار السياحي بمفهومه الاقتصادي.. كما ينقصها الأهم حتى تصبح مقرا دائما وليس ممرا فقط عبر زيارة عابرة للحافلات التي تقل الوفود الأجنبية أو حتى للسائح الأجنبي أو الوافد العربي أو الزائر اللبناني الداخلي والمغترب..
ورغم كل التحسينات التي طرأت على صيدا خاصة المدينة القديمة والواجهة البحرية ومقـــاهي الأرصفة الشهيرة فيها.. فإن الثقافة السياحية بمفهومها العام غائبة عن المدينة من الدليل السياحي الذي يقدم الخدمة للوافدين إلى الكتـــيبات الترويجية والخرائط وحتى الملصـــقات الإعلانية عن صـــيدا وتاريخها وحضارتــها كونها غائبة تمـــاما حتى داخل المدينة..
ولا يوجد في عاصمة الجنوب متحف يضم ويحتوي حضارات وآثارات ومقتنيات العالم القديم التي تكتشف يوميا في باطن أرضها.. يضاف إلى ذلك غياب الفنادق السياحية التي تتمتع بتصنيف سياحي متعارف عليه باستثناء فندقين قديمين أو تاريخيين مبنيين من الحجر الرملي الأثري هما اوتيل القلعة وفندق يعقوب يقع احدهما فقط وسط السوق التجاري؟ ولا يستوعبان معا أكثر من أربعين نزيلا في أقصى طاقة استيعابية لهما.. وللعلم تفتقر صيدا لأي دار للسينما، وحتى شبكة المطاعم فيها تبقى فقيرة جدا جدا قياسا إلى حجم صيدا السياحي وموقعها التراثي وبالرغم من المطاعم الحديثة المحدودة التي استحدثت فيها مؤخرا ورغم مطاعم الفلافل والفول و«المناقيش» المشهورة المنتشرة كالفطر في المدينة بمواصفاتها الشعبية والتراثية ..
وما تزال المدينة بحاجة إلى سلسلة من المطاعم التي تحظى بالعالمية والتي تنتشر عادة في الأمكنة السياحية والتراثية.. إضافة إلى عامل آخر يؤثر سلبا في النمو السياحي في صيدا كون المدينة لا تقدم مشروبات كحولية على أنواعها، وربما هذه المسألة تدفع السائح أو الوافد وحتى الزائر اللبناني للبحث عنها في مناطق أخرى ربما تكون جنوبي المدينة من الزهراني حتى صور وصولا إلى الناقورة .. وأنه بالرغم من أهميتها وموقعها فإن صيدا تفتقر للمهرجانات السياحية السنوية وتكاد تكون المدينة الوحيدة في لبنان التي تتمتع بكل هذه المواصفات ولا يقام فيها أي مهرجان سياحي صيفي على غرار المهرجانات القائمة حاليا .. هذا من دون أن ننسى انه بالرغم من الشاطئ الجميل الذي تحظى به صيدا فان أي مسبح فيها على أي مستوى ووفق أي درجة سياحية غير موجود ولا هو متوافر ولا توجد نية لإنشائه مستقبلا على ما يبدو.. باستثناء المسبح الشعبي شمالا.. ناهيك عن الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي والتقنين الحاد الذي يؤثر سلبا على الخدمات السياحية في المدينة.
وصيدا تعتمد بنسبة كبيرة جدا وخاصة أسواقها ومؤسساتها التجارية على الحركة السياحية التسويقية النهارية المرتبطة تجاريا بالسياحة الداخلية حيث يزورها في فصل الصيف معظم المغتربين الجنوبيين للتبضع إضافة إلى أهلها والفلسطينيين المقيمين في مخيماتها الذين يعملون في الخارج ويأتون إلى لبنان صيفا.
تتعدد المعالم الأثرية في صيدا وتتنوع بتعدد وتنوع الحضارات التي بسطت سيطرتها وسلطتها على صيدون منذ القدم. وما هو ظاهر من المكتشفات الأثرية في المدينة قد يعتبر اقل بكثير مما هو موجود في باطن الأرض.
وما هو معروض من مكتشفات صيدا الأثرية على تنوعها يعتبر لا شيء قياسا إلى ما تمت سرقته أو نقله من ثروتها الوطنية المتمثلة بآثارها أن من خلال الغزوات التي تعاقبت عليها عبر التاريخ القديم والحديث أو من خلال الاجتياحات المختلفة وصولا إلى الاجتياح الإسرائيلي. وتضم صيدا عشرات المواقع التراثية والتاريخية إلا أننا اخترنا بعضا منها نظرا لحيثياتها ودلالاتها التاريخية والتراثية والمعمارية.
قلعة صيدا البحرية
تعتبر قلعة صيدا البحرية من أشهر معالم صيدا الأثرية على الإطلاق كونها الشاهدة على كل العصور وعلى كل الغزوات وكانت الثغر الذي صدت من خلاله صيدون وقاومت كل جحافل وأساطيل الغزاة وما تزال تشكل عنوان العنفوان الصيداوي الشامخ.
شيدت قلعة صيدا البحرية او قلعة الصليبيين في صيدا فوق نتوء صخري. تبعد نحو مئة متر عن صيدا القديمة، وتعود إلى القرن الثالث عشر للميلاد وهي مبنية من حجارة أبنية قديمة يعود بعضها إلى العصر الروماني وقد أضيفت عليها أجنحة ومعالم ترمز إلى الحضارات المتعاقبة.
القلعة البرية
قلعة صيدا البرية أو قلعة القديس لويس التاسع الملك الذي قاد الحملة الصليبية السابعة (1248–1254) او قلعة الخليفة المعز الفاطمي (952 –975). وهي تقع فوق أعلى تلة في صيدون القديمة (ناحية بوابة صيدا المتعارف عليها باسم البوابة الفوقا) التي كانت تشرف على المدينة القديمة وهذه القلعة بالرغم من الأهمية التاريخية التي كانت لها نظرا لما تشكله من ثغر بري لصد الغزوات عن المدينة القديمة فهي اليوم مقفلة أمام الزوار وبحاجة لأعمال ترميم فورية وسريعة حماية لها وحرصا عليها من الانهيار.
خان الافرنج
تشتهر صيدا بالخانات منذ القدم بحيث يعود تاريخ هذه الخانات إلى تعدد الحقبات التي توالت على المدينة القديمة.. إلا أن خان الإفرنج الذي يقع قبالة رصيف ميناء الصيادين ويشرف على البحر يعتبر من أهم احد ستة خانات في المدينة. ويؤشر الخان إلى الأهمية التجارية والاقتصادية التي عرفتها صيدا في عهد الأمير فخر الدين إضافة إلى فنون البناء الذي تميزت بها كبقية المدن الساحلية. وارتبطت شهرة الخان ليس فقط بالتجارة قديما بل باستقبال وفود الفرنجة الزائرة من توسكانا في ايطاليا وفرنسا وغيرها إضافة لاستخدامه كإسطبل لخيل كبار الوافدين والتجار وكمخزن كبير للبضائع لا سيما في الطابق السفلي.
والخان بناء جميل جدا مربع الشكل من الحجر الرملي ويتألف من قسم سفلي وقسم علوي يقع ضمنه البيت القنصلي الأجنبي، ويحتوي على جناح يقال انه كان مخصصاً للمندوب الفرنسي. ويتم حاليا استخدام الخان من قبل مؤسسة الحريري بشكل جيد ومتعدد الأوجه الثقافية وتقام فيه المهرجانات الفنية والثقافية والمعارض التراثية والحرفية ومعارض المنتوجات الزراعية.
المسجد العمري الكبير
يعتبر المسجد «العمري» الكبير في صيدا قيمة معمارية حضارية بالغة الدقة نظرا لما يشكله فن البناء المعتمد فيه كشاهد على طراز العمارة الإسلامية منذ مئات السنين حيث يعتبر من أجمل المساجد القديمة على الإطلاق في لبنان. وهو يحتل في صيدا موقعا جغرافيا مميزا فهو يطل بمئذنته البهية على البحر، ومن جهة ثانية يقع على تخوم المدينة القديمة قرب حي رجال الأربعين في حين أن مدخله يأتي عبر أشهر الساحات في صيدا القديمة ساحة ضهر المير. ويعتبر المسجد شاهدا على الثقافة الوطنية لمدينة صيدا وعنوانا للعيش المشترك فيها ومعلما إسلاميا بارزا وهو أدى دورا مميزا وهاما خلال الاجتياح الإسرائيلي .. ونظرا لدوره هذا دمرته إسرائيل عن بكرة أبيه إلا الشهيد رفيق الحريري أعاد ترميمه على نفقته وأعاد تشييده كما كان وقد حصل على جائزة مسابقة «الآغا خان» التي تمنح لأفضل اثر معماري.
صخرة الجزيرة
تعتبر جزيرة صيدا احد المعالم الطبيعية والسياحية في المدينة وأحد المعالم اللبنانية البحرية الهامة وهي جزيرة صغيرة، تشرف عليها وزارة النقل والأشغال العامة وتقع قبالة المدينة مباشرة وعلى بعد حوالى ألف وخمسمئة متر تقريبا من الشاطئ ولا يمكن الوصول إليها إلا بواسطة القوارب السياحية أو مراكب الصيادين وتعتبر آية من الجمال ومقصدا للصيداويين للتنزه والسباحة والغوص في الأعماق كون بحرها الأكثر نظافة في صيدا.
تتجاوز مساحة «زيرة صيدا» (باللهجة الصيداوية) سبعمئة متر مربع وهي طولية الشكل وعبارة عن جرف من الصخر تكثر فيه النتوءات الحادة وتتواجد حولها مساحة صغيرة من الصخور التي تشكل امتدادا طبيعيا لها وتمر فيها «الملاحات». وتؤكد الدلائل أنها كانت في ماضي الزمان تستخدم في جانب من مساحتها كبرك لتبخير مياه البحر لاستخراج الملح البحري وما تزال تلك الملاحات محفورة في الصخر وماثلة وظاهرة بالعين المجردة رغم مرور أزمان على إنشائها. كما تحتضن الجزيرة «المنارة» التي ترشد السفن التجارية ومراكب الصيادين ليلا.
في فصل الصيف تصبح جزيرة صيدا مقصدا للشباب الصيداوي وللمقيمين في المدينة كما لبعض العائلات لتمضية نهار عطلة طويل وبعيد عن كل صخب وضجيج المدينة... خاصة أن هذه الصخرة شهدت في الستينات أهم مهرجانات الربيع التي كانت تقام في ربوعها في صيدا، وأقيمت فيها الحفلات ومهرجانات الصيف الصيداوية والتي كان يشارك فيها أهم وأشهر الفنانين في تلك الحقبة أمثال الفنانة صباح وغيرها.
معبد أشمون
من المعابد القديمة في صيدا معبد أشمون أو معبد «إلهة الشفاء» ويقع شمالي صيدا بموازة نهر الأولي. وتشير كتب التاريخ إلى ان المعبد شيد في العام 1855، وذلك من كتابات اكتشفها منقبون عندما عثروا على ناووس للملك اشمون عزر، وقد نقشت عليه بحروف فينيقية عبارة «بعل الصيدونيين»، ويعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد. أما والدة اشمون، فكاهنة عشتروت التي لقبها الصيداويون بـ«ملكة صيدون». وحاليا لم يعد يبقى من المعبد الا فسحة واسعة جدا وقطعة من الفسيفساء بعد أن تحول في معظمة إلى أطلال للدارسة.
متحف الصابون
يعتبر المتحف الوحيد في صيدا لتاريخه رغم أهمية صيدا التاريخية والأثرية عبر العصور وهو ملك خاص لآل عودة الذين أعادوا ترميمه بشكل جميل جدا. والمتحف مخصص للصابون فقط حيث يشرح فيه كيف كانت تصًنع «الصابونة» المطيبة أو المعطرة وأنواعها وأشكالها في صيدا مع أدواتها والمعدات الخاصة بها منذ قديم الزمن. إلا أن أهمية متحف عودة للصابون أيضا كونه موجودا في بناء تاريخي تراثي من الحجر الرملي ومبنى على طريقة «العقد» السائدة في المدينة القديمة وموجود على تخوم صيدا الحديثة في منطقة وسطى بين القلعتين البرية والبحرية وهناك سهولة في الوصول إليه.
قصر دبانة
ينتصب «قصر دبانة» (نسبة لعائلة دبانة في صيدا مالكة القصر) شاهدا شامخا عند إحدى بوابات المدينة القديمة متباهيا بعلو طبقاته ويعتبر رمزا حيا للفن المعماري العثماني الجميل في صيدا وما زال محافظا على رونقه التراثي وطرازه المعماري رغم أن بناءه يعود إلى العام 1721. وقد أعاد آل دبانة ترميمه وتأهيله وإزالة الشوائب التي شوهته بفعل الإهمال وخلال السنوات الماضية ومن ثم إعادة فتحه للزوار ضمن أوقات محددة.
مارونية وأرثوذكسية وكاثوليكية
في صيدا القديمة كنسية تاريخية تتخذ منها مطرانية الروم الارثوذكس مقرا عاما لأبرشيتها في المدينة ويفصلها عن كنسية الكاثوليك جدار واحد فقط وهناك نية لإعادة ترميمها، إضافة إلى ما يشبه الأطلال لكنسية مارونية قرب حي رجال الأربعين بجوار ساحة ضهر المير.

الأربعاء 15 تموز 2009