فيما يجهد العالم بحثا عن قنوات مباشرة لاستجرار الغاز والنفط تحرراً من تبعيات سياسية بدليل التسابق على انشاء خطوط بين شمالي افريقيا وطرف اوروبا (ليبيا - ايطاليا) وبين الاتحاد الاوروبي وآسيا الوسطى (خط "نابوكو")، يبقي لبنان ذهبه الابيض مدفونا في عرض مياهه الاقليمية من دون ان يجرؤ حتى على التأكد من احتمالات وجود تلك الثروة في ظل دراسات تراكمت منذ اكثر من عقد.
فهل يحقق لبنان حلمه باكتشاف مكامن ثروته النفطية فينضم الى نادي "السفينة السورية"، وهي تسمية ترمز الى جيولوجيا المنطقة بين تدمر في سوريا ولبنان واسرائيل وفلسطين الى مصر؟ وهل يغفل 3 او 4 مليارات دولار سنويا على مدى 20 عاما في حال راوح سعر النفط بين 60 أو 80 دولارا للبرميل التي اشارت اليها آخر الدراسات، وهو الذي يكافح لمعالجة المديونية العامة وخدمتها المكلفة ولتعزيز نموه الاقتصادي؟
يقف لبنان امام فرصة الافادة من صناعة النفط والغاز التي تشهد انتعاشا غير مسبوق في العالم، في ظل دراسات ومسوحات زلزالية اجمعت على اعتبار المنطقة البحرية اللبنانية حوضا ترسييا جديدا اطلق عليه اسم "الحوض اللبناني". فمنذ عام 1976، يحلم لبنان باستخراج ذهبه الاسود بعد اكتشافات كبيرة للهيدروكربون في العقد الماضي في المنطقة الشرقية من المتوسط، وتحديدا في كل من مصر وفلسطين واسرائيل وصولا الى المنطقة الشمالية وتحديدا تركيا التي باشرت التنقيب عن النفط عام 2007. واستقطبت تلك الدول استثمارات ضخمة استهدفت استكشاف حقول الغاز في المياه على عمق يراوح بين 80 و2500 متر، بما اهّل تلك الدول لتكون مركزا رئيسا لانتاج الغاز وتصديره الى العالم.
وانطلاقا من تلك الوقائع، ثمة من يدعو الى التعجيل في بدء عملية التنقيب عن نفط لبنان، "وخصوصا بعد اجراء نحو 120 خطا زلزاليا ثنائي الابعاد لمنطقة صغيرة تفوق مساحتها الـ10 آلاف كليومتر من المسوحات الزلزالية والدراسات الثلاثية الابعاد التي تود الحصول عليها الشركات الراغبة في دخول هذا المجال"، وفق الخبير الاقتصادي في شؤون الطاقة والخصخصة رودي بارودي.
واكثر، يعتبر بارودي ان الحوض اللبناني البحري يبدو منطقة جيولوجية واعدة "ويحتوي امكانات ضخمة لانتاج الهيدروكربون"، متوقعا ان تجلب اكتشافات النفط والغاز في هذا الحوض استثمارات خارجية كبيرة ستساهم في نهوض الاقتصاد. ويرى ان الفوائد لن تكون مالية فحسب، "اذ ان تلبية الطلب المحلي سيحمي الدولة من اسعار الطاقة المتقلبة، بينما ستتعزز خزينتها بايرادات اضافية ضخمة من صادرات النفط و/او الغاز الطبيعي"، مؤكدا ان تطوير صناعة الهيدروكربون المحلية يعني تنمية الكفايات البشرية الوطنية اضافة الى خفض البطالة وتدفق الرساميل الخارجية لتطوير البنية التحتية "اذ ثبتت جدوى المواقع المحتملة بعد الحفر التنقيبي، بما سيضع لبنان على لائحة الدول المنتجة للنفط والغاز، ويرسخ مكانته الاستراتيجية على خريطة الطاقة العالمية".
وفي ظل اهتمام النروج - صاحبة التجربة الرائدة في استخراج نفطها من بحر الشمال - بمساعدة لبنان على اكتشاف نفطه بدءا من المراحل الاولية الضرورية، يقول بارودي ان شركات النفط تترقب اغتنام الفرصة للعمل، "وقد يعتبر التأخير في تطوير القوانين التنظيمية والتقنية والضريبية Taxes في التشريعات المحلية واطلاق جولة منح التراخيص الدولية المخطط لها معوقا لمناخ الاستثمار في هذا القطاع، بما قد يضعف قدرة لبنان على استقطاب الرساميل من شركات النفط والغاز العالمية، وقد تكون له آثار مضاعفة على تنافسية اقتصاده".
دراسة استراتيجية
وفي دراسة عن "سياسة اقتصادية للاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز في المياه الاقليمية اللبنانية" رفعها بارودي الى رئيس الجمهورية اخيرا، تفنيداً لميزات صناعة النفط، اضافة الى ملخص عن وضع التنقيب في الدول المجاورة والشكوك والمخاطر والفوائد المتوقعة من وضع مخططات تنفيذية لعمليات التطوير والاستثمار الخارجي المباشر.
وفي خانة تقييم الفوائد على الاقتصاد، عدّد بارودي ابرزها: "خفض الدين الوطني، وتلبية نطاق واسع من حاجات لبنان من النفط، وجذب استثمارات كبيرة، وانشاء بنية تحتية لقطاع الطاقة، واستحداث مشروعات صناعة واسعة، وتطوير الموارد البشرية لجهة تبادل التقنيات اضافة الى ايجاد بقعة استراتيجية على خريطة الطاقة". لكنه رأى ان هذا الواقع يحتم على لبنان "تأمين استثمار من شركات النفط والغاز الدولية لاستغلال الظروف المؤاتية دوليا، ودرس آثار تكاليف الطاقة التي يحتمل ان تبقى مرتفعة عبر استغلال امكاناتها الاحتياطية، ليغدو لبنان بذلك دولة منتجة للهيدروكربون".
وفي الشكوك والمخاطر، يرى ان انشطة التنقيب تحمل في طياتها مواضع قلق وشكوك "تستلزم تطبيق عامل الخطر المالي والسياسي على قيمة الاحتياط المقدّر عند تفنيد دراسة جدوى اولية". ويشير الى ان الخطر الاكثر شيوعا هو خطر مرحلة التنقيب، "اذ ستستثمر شركة النفط والغاز مبالغ طائلة إذا كانت عملية التنقيب عقيمة. كذلك، يؤدي الخطر السياسي دوره في الصناعة وفقا للأوضاع الاجتماعية الاقتصادية والسياسية، علما ان الشركات تطبق مبدأ المغامرة في هذه الصناعة المرتفعة المخاطر". ونصح باغتنام هذه الفرص "لتحاول الحكومة تخفيف المخاطر عند الربط بين اكتشاف النفط والاحتياط التراكمي المكتشف في المنطقة البحرية".
وعدّد ابرز الشكوك بالآتي:
"- التحقق من وجود متطلبات النفط، اذ يعدّ حفر آبار استشكافية في المنطقة البحرية السبيل الوحيد لمعرفة المخزون الهيدروكربوني.
- ان معظم الدلائل والمواقع المحتملة المحددة هي افتراضية بطبيعتها نظرا الى قلة الاكتشافات في هذه المنطقة من لبنان.
- استند تحديد معظم مواقع التنقيب المحتملة الى بيانات زلزالية محدودة تتألف من خطوط ثنائية وثلاثية الأبعاد، بما يؤكد حاجتها الى الدقة في تحديد الموقع المحتمل الذي ستباشر فيه عمليات التنقيب.
- قد يكون العديد من المواقع المحتملة صغيرة الحجم وفي أماكن عميقة تحت المياه، وقد يكون حفرها وتشغيلها غير مجد اقتصادياً ما لم يتمّ دمج الإنتاج من حقول عدة.
- تقع معظم المواقع الضخمة المحتملة في المياه العميقة، حيث لا تتوافر حالياً بيانات تقييم زلزالية كافية.
- يرتبط تراكم الهيدروكربون عادة بخطر ما نظرا الى ضعف موانع تسرب المكمن وتشبع ضعيف للغاز/النفط وآلية مصائد الهيدروكربون".
واشار الى ان الجدوى الاقتصادية من الحقول في المياه العميقة مشروط دائماً بالمخاطر الجيولوجية والاحتياط الممكن استخراجه والشروط المالية التي ستضعها الحكومة في قانون الاطار العام للهيدروكربون إضافة إلى إنتاجية البئر، موضحا ان الطبيعة الدينامية الأزلية لصناعة البترول تخضع دائماً الى عملية تكيف تصاعدي. "اذ نحاول إظهار جوهر العملية، وخصوصاً فور نجاحنا ببدء عملية تنقيب وإنتاج فعلية وتفهم الآليات والعواقب الاقتصادية التي تدفع هذه الصناعة". ولفت الى ان الشركات ستتطلع الى التشريعات البترولية في لبنان. "فدراسة التشريعات (العالقة منذ عام 2004) ستنعكس إيجابياً على سير الاعمال، لأن ذلك سيؤثر في قرارات الشركات بالاستثمار لجهة منحها بعضاً من الشفافية والطمأنينة".
الاكتشاف الاول
وسلطت الدراسة الضوء على الفوائد والميزات والارباح التي سيجنيها لبنان من اول اكتشاف نفطي في السنوات الخمس الاولى، عقب اول ترخيص للمناطق البحرية اللبنانية. ولفتت الى انه ستخصص منطقة بحرية واحدة أو أكثر إلى الشركات العالمية عبر تسويق المناطق الموصوفة Blocks والتحضير المستمر لوضع استراتيجية تعزز أعمال التنقيب، ووضع إطار قانوني لهذه الحملة. وتستند هذه العملية، وفق الدراسة، إلى العطاءات التي ستمنح في مرحلة الترخيص العالمي، "ويعتبر إرساء العطاءات وتنفيذ اتفاقات التطوير (المشاركة في الإنتاج) نقطة انطلاق دورة التنقيب، لتبدأ بعدها مرحلة التنقيب بإجراء مسح زلزالي ثلاثي الأبعاد رفيع الدقة للتحديد الأمثل للموقع المحتمل وخفض خطر التنقيب في المياه العميقة. بعدها، تبدأ عملية الحفر للتحقق من وجود الهيدروكربون بكميات مجدية اقتصادياً. علما ان تلك المرحلة تتطلب استثماراً تقديرياً يراوح بين 3 إلى 6 ملايين دولار لكل منطقة".
وتطرقت الدراسة الى المراحل التالية لاختبار التركيبات الهيدروكربونية، وحفر آبار وصفية إضافية للتأكد من مدى أي اكتشاف، مرورا بعمليات تصميم برامج التطوير ومرافق الانتاج واعداد دراسات الآثار على البيئة، وهي تتطلب استثمارات اضافية تراوح بين 200 و250 مليون دولار لكل منطقة.
واشارت الى انه يتوجب على الشركات الدولية التي أبدت رغبتها في تطوير مشروع في المنطقة البحرية اللبنانية إنفاق متوسط 60 إلى 100 مليون دولار خلال مرحلة التنقيب بموجب الشروط التي سيتم وضعها لجولة الترخيص الأولى. "وإذا ثبتت الجدوى الاقتصادية للاكتشاف، ستستثمر الشركة ما يوازي 500 مليون إضافية سواء بمفردها أو عبر المشاريع المشتركة بغية تطوير مرافق إنتاج ونقل النفط و/أو الغاز". واشارت الى انه سيتمّ الاستعانة بالمزودين المحليين والشركات الوطنية لتقديم خدمات الاستشارات القانونية والمالية وخدمات تموين الطعام والشحن والترانزيت واستئجار المكاتب والمرافق السكنية والسيارات وسواها، متوقعة بلوغ المصروفات السنوية نحو 10 ملايين دولار لكل مشغل (مع وجود 3 إلى 5 مشغلين) وتحقيق عائد سنوي بين 30 إلى 50 مليون دولار، "على ان يراوح إجمالي المصاريف بين 100 و150 مليون دولار في السنوات الخمس الأول من الترخيص. لذا، يتوقع ان تدرّ المرحلة الأولى للتنقيب البحري استثماراً يفوق الـ500 مليون دولار في السنوات الخمس الأولى، فضلا عن مساهمتها في تعزيز البنية التحتية وفرص العمل".
من هنا، ثمة اهمية لاستكمال التعاون مع دولة صديقة ورائدة لتأدية دور استراتيجي تمهيدا لانشاء اول شركة نفط لبنانية. "ومع التنقيب على طول الشاطئ حيث تشير دراسات الى امكان وجود كميات لا يستهان بها، يمكن القيام بعمليات مسح جيولوجي في بعض المناطق وخصوصا في البقاع والجنوب في ظل مؤشرات ايجابية اوردتها بعض الدراسات". واوصت الدراسة الدولة بالاستعانة بدول صديقة ومنتجة متخصصة في عمليات الاستكشاف والتنقيب والانتاج Offshore والتسويق مثل قطر والسعودية والكويت ومصر والنروج، بغية مساعدة لبنان في ادارة هذا المرفق الحيوي وفي انشاء شركة نفط وغاز وطنية.
وأكدت ان الحكومة والشركات ستفيد من تصدير نحو 160 الف برميل يوميا "والذي تقدر عائداته بنحو 3 الى 4 مليارات دولار على مدى 20 سنة مقبلة على اساس ان سعر برميل النفط هو 60 الى 80 دولاراً"، مشيرة الى ان الاستهلاك يقدّر بنحو 80 الف برميل يوميا "بما يشكل الحافز المالي للبنان، اذ سيوفر التكاليف المرتبطة لانه لن يضطر الى استيراد تلك الكميات بل سيزيد وفره من بيعه كميات مماثلة".
بات لبنان على مشارف دخول نادي الدول المنتجة. فهل يبادر الى ممارسة حقه في استغلال موارده الطبيعية الكفيلة بإخراجه من قعر الضائقة الاقتصادية وانتاج مرحلة جديدة من الازدهار والنمو والرخاء؟
فيوليت البلعة