قاسم عز الدين
قبيل بداية الألفية، ارتأت وزارة الثقافة الفرنسية نشر وتعميم سلسلة كتيبات «في المواطَنَة» على طلاب المدرسة الرسمية، باعتبار أن مدرسة الحكومة هي ثالث أركان الجمهورية والديموقراطية والعلمانية على السواء، بعد المرافق العامة وضريبة الدخل. كتب في هذه السلسلة كثيرون منهم ريجيس دوبرية وأمين معلوف والطاهر بن جلون. ومما قاله دوبرية أن المواطن هو من لا يهنأ باله إذا رأى حفرة في الطريق العام قبل أن يدبّ الصوت على المواطنين، لخضّ المسؤولين عن انتهاك حقوقهم العامة. فالمواطن، المشبَع بمخيال برّاني عن بلاد الديموقراطية، هو من لا يتبجّح بغرائزه الأولية وحياته الشخصية المعني بها وحده، وبكثير من الخفر إذا كانت مسرفة باذخة، لكنه معني بالشأن العام والمبادرة والعمل الجماعي. هو، إن شئت فذلكة سياسية، مسؤول عن المساهمة بمراقبة ومحاسبة الحكومة بين فترتين انتخابيتين والضغط عليها في الشارع ومواقع أخرى. فالشخص الذي يحاسب في صندوق الاقتراع ثم ينصرف لشأنه ليس مواطنا بعد، وكيف إذا كان ينصرف لتغذية غرائزه الأولية والبذخ بأموال لم يتعب بجنيها؟ ففي بلاد المواطَنَة يسموه طفيلياً، لا يرجمونه لكن لا يمجّدونه. فتمجيده سلعة «ما بعد الحداثة» مصنوعة لاستهلاك مثقفي «الحداثة» في سوق العالم الثالث وحدها.
والحال، تنحو دراسة «الثقافة وسؤال المواطَنَة» منحى تمجيد الشخص المستهلك، على نفقة أهله غالباً، المتبجّح بذاته وأنانيته الفردية، وتراهن على أترابه وحدهم في المواطنَة، وفي مشروع الدولة فوق الحمل حملين. لماذا؟ لأنه متعدد اللغات الأجنبية ويحتكّ بالغرب ويجاري عصر العولمة، والأهم ينبذ محيطه الجاهل المتخلّف العُصابي المتوحِّش. وبحدود ما نعرف، نظنّ أن الجماعة الطائفية هي أدنى من الأعلى المشترك بين الجماعات (الدولة)، لكنها أعلى من فردانية الفرد وأرقى، فكيف لنا أن نطمح إلى الأعلى المشترك بالهبوط من الجماعة إلى الأدنى الفردي؟ تلك معجزة العلم المتعدد اللغات والراسخين بهذا العلم.
ويبدو من فحوى الدراسة أن هؤلاء الأفراد هم خميرة نظام سياسي وتجاري كومبرادوري يزداد مواطنَة ورقيّاً في «دولته»، كلما ازداد ارتباط عبيد روما بمركز أحرار روما. وفي أي حال هذه هي الفكرة «الجوهرية» التي تسعى الأمم المتحدة والهيئات الدولية الأخرى لنشرها بين العبيد، وهي الفكرة البارزة في دراسة «سؤال المواطنة». وعدا ذلك لا تعدو الدراسة عن قصص قصيرة أدبية ممتعة في البارانويا اللبنانية، ولا تخلو من حبّة بيئة وحبّة «جاندر»، بناء على نصائح المشرفين على التقرير، وما زال ينقصها حبة طفل وحبتان أخريان لاكتمال اللوحة «الستاندر».
تقول الدراسة تحت عنوان الثقافة العليا: «ويبدو أن الثقافة المسيحية بمركزها الماروني، التي امتلكت الديناميات الأولى للثقافة اللبنانية المعاصرة... وأطلقت دينامية طبقية وديموقراطية، الإرساليات والتعليم المكثّف والمتعدد اللغات، الكنيسة بوصفها ركيزة لمجتمع مدني، وكالات الشركات الأجنبية والتجارة مع الخارج مما ساهم في مأسسة إرساء اقتصاد كومبرادوري....» (ص 167). والحق يقال هذا أمر عجب في دراسة «الثقافة وسؤال المواطنَة». لقد أعددنا أنفسنا للنظر في إبداع «حديث» فإذا بنا نقرأ إيليا حريق العام 75 وكأنكِ «يا سلمى لا رحت ولا جئت». والحقيقة أنه بخلاف ما تلمّح الدراسة بين السطور حول جهل الناس باحترام القانون وتخلّف الجماعات في الاعتداء على الدولة، فإن سلطة تجار الكومبرادور نشأت بالاعتداء على الناس والثروة العامة ومؤسسات «الدولة»، وعلى تقاسم الزبائنية تحت امرة أمراء الطوائف والتبعية المطلقة لدول المركز، ولم يكن أمام الناس بعد صبر طويل غير الفوضى. لأن تنظيم الأعلى المشترك (الدولة) تقوم به قوى اجتماعية واقتصادية وثقافية قوية (في السلطة و خارجها) تلبّي الدولة مصالحها وطموحاتها، في الحد من التبعية لدول المركز، وبخلاف ذلك تعمّ الفوضى. فالمراهنة على «مواطنين» أخيار طائعين للسلطة حتى تتوفق في بناء دولة الكومبرادور، طُرفة سَمجة على غرار ادعاءات الأمم المتحدة والهيئات الدولية بالسلام ومكافحة الفقر والجوع. وقد رفضت القوى المتسلطة على حقوق الناس إجراء إصلاحات طفيفة ولا تزال، لأن مصالحها وطموحاتها الكومبرادورية تتناقض مع هذه الحقوق، على الرغم من أنها متعددة اللغات وتأكل بالشوكة والسكين.
والغريب أن الدراسة تقول: «نجمت الحرب عن نمو اقتصادي، لا عن ركود... ونجمت عن نمو في الوعي، لا عن انحسار» ( ص 171). كأني بها تأخذ على الناس وعيهم ببعض حقوقهم، في دفع السلطة للحرب فيما هو النمو الاقتصادي زيادة فلسين من هنا وفلسين من هناك. وهي مقولة نيوليبرالية شائعة في استبدال الحقوق الإنسانية (حق العمل والمأوى والتعليم والحقوق السياسية والثقافية والوطنية...) بحقوق الإنسان المحدودة بالحريات الفردية وحقوق الأشخاص والجماعات... ومن بينها حق البقاء، بفلسين حفاظاً على «الاتيك» وشراء تعذيب الضمير بفلسين.
دعنا نمسك الثور من حبة البيئة الواردة في الدراسة، معاذ الله أن ننشغل بفلسطين والمقاومة وقضايا الاستبداد المفتعلة. فالحبة هي رؤية شاعر وأديب يرى البيئة جبلاً أخضر وعصفوراً وزهرة جميلة. لكن هذه الرؤية الشعرية البريئة، مضحكة لأي مواطن ناشط ابتدائي في الدفاع عن البيئة. فالمواطن يهتم بالحفاظ على البيئة في منبع تلوّث المياه والأرض والمناخ وتبديد التنوّع الحيوي. أي يهتم بوقف النشاطات الاقتصادية المحمومة بهدر البيئة بصفتها ثروة وثقافة عامة منقولة جيلا الى جيل. ثم يكتشف أن الزراعة الكيماوية ومبيدات الرش مسؤولة عن 80% من التلوّث. ويكتشف بعدها أن نظام الكومبرادور المعولم أدخل هذا النوع من الزراعة، بحجة مكافحة الجوع، لترويج أعمال شركات البذور والكيماويات، وتنشيط الكومبرادور لا سيما في التبعية الغذائية لدول المركز. ويكتشف أن السلطة التي وقّعت على الاتفاقيات «بالشراكة الحرة» اعتدت على البيئة والمزارعين والأمن الغذائي، وملأت جيوبها بالعمولات ذهاباً، وبالمساعدة على «نشر الوعي» بالبيئة إياباً. فهي تأخذ حق المجتمع المدني في برامج تنظيف فضلات تجارة الكومبرادور، وتعطيه لجمعيات «المجتمع المدني» المملوكة من عائلات السلطة، بالاتفاق مع الاتحاد الأوروبي والهيئات الدولية، ومن أجل إنتاج الورق والكتاتيب بلغات متعددة.
وأخيرا يكتشف المواطن أن المعارف والخبرات المختزنة جيلاً بعد جيل في عمل مزارعي بلادنا ، وفي تهجين بذورهم المديد، أعلم وأرقى من علم شركة «مونسانتو» وخبراء مختبرات بذور (الترميناتور) القاتلة.
يتعلم هذا المواطن أن علم المزارعين يوفر الأمن الغذائي لمشروع بناء الدولة وأن علم «مونسانتو» وكومبرادورها يخرّب الأرض والغذاء لأي مشروع دولة إذا كنا لا نقصد سوبرماركت ومزرعة. يتعلّم كذلك أن بعض العلم ما قتل وأن بعض المتعلمين يقتل بنشر العلم القاتل، وغالباً بلغات أجنبية ثلاث. يتذكر المواطن حكمة فلاحي بلادنا في قولهم: «ان الثلم الأعوج من الثور الكبير، دوماً». وينتبه إلى أن كيل الأمم المتحدة والهيئات الدولية بمكيالين لا يقتصر على قضايا الاستبداد المفتعلة، بل يشمل حبة القمح ونقطة الماء وذرّة التراب والمعارف المختزنة بغير ماركة مسجلة... في هدر الحقوق.
يتساءل المواطن عن سرّ تقديس مثقفي «الحداثة» العرب لكل ما هو جائر ضخم ومقتدر. ويحاول المقارنة مع كبار المنشقين عن الهيئات الدولية الجائرة أمثال جان زيغلر وجوزيف ستنغلرز وريكاردو بيتريللا وفاندانا شيفا...
وبمسك الختام تختم دراسة «الثقافة وسؤال المواطنة» بالتعويل في تغيير التخلّف العصابي الجماعي، على الفردية المترسخة والصلة الإلحاقية بالغرب فتقول:
«تحطمت تابوات، فغدا الحب الحر مقبولاً.... وازدهرت حياة ليل جارفة في مناطق التماس القديمة..... تحوّل وسط البلد إلى مركز حاشد للبنوك والمطاعم .... لقد ترسّخت الفردية واستُعيدت صلة بالعصر والغرب.... ( ص186).
يقلب المواطن شفتيه عجبا ويتمتم ما معناه لقد ذقنا وعلمنا فأبشر بطول سلامة يا مربع.
اثنين | ثلاثاء | أربعاء | خميس | جمعة | سبت | أحد |
---|---|---|---|---|---|---|
31 | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 |
7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 |
14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 |
21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 |
28 | 29 | 30 | 1 | 2 | 3 | 4 |