رغم التعقيدات التي ستواجه تشكيل الحكومة الجديدة، فانها ستتشكل في نهاية المطاف. والأنظار ستتجه بعدها الى الملفات التي تنتظر الحكومة العتيدة، والتي لا تزال عالقة منذ عهد الحكومة السابقة، إن لم نقل الحكومات السابقة. وإذا كانت الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تحتاج الى خطط طويلة الأمد، فإن ثمة ملفات أخرى لا تزال تنتظر الحل، وهي تتسم بصفة العاجلة جدا، وفي مقدمها الملف الأمني.
لا يختلف لبنانيان على أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية أصبحت خانقة الى درجة لا تحتمل. فمن أسعار المحروقات الى غياب الكهرباء وصولا الى الغلاء المستشري على كل الصعد، ناهيك عن ملفات الاستشفاء والطبابة والتعليم... كلها عناوين للشكوى المزمنة بسبب غياب المعالجات الجذرية والفاعلة في ظل تفاقم الدين العام بشكل بالغ الخطورة.
لكن، وبعيدا عن هذه الملفات البالغة التعقيد، والتي يستحيل حلها موضوعيا بين ليلة وضحاها، ثمة ملفات تبدو أكثر خطورة لأنها تمسّ حياة اللبنانيين وتهدد أمنهم.
من أبرز هذه الملفات الملف الأمني، الذي يرخي بثقله على الحكومة الجديدة. فمنذ حوادث 7 أيار 2008 واللبنانيون يعيشون هاجسا أمنيا تحوّل كابوسا بفعل استمرار تنقل شبح العبث بالأمن بين منطقة وأخرى. واللبنانيون لم ينسوا حوادث بيروت والجبل، واشتباكات سعدنايل - تعلبايا وباب التبانة - جبل محسن مرورا بكل الحوادث الأمنية المتنقلة وخصوصا في بيروت، وصولا الى الكابوس إياه الذي أيقظته مواجهات عائشة بكار في بيروت قبل أسابيع.
ولا شك في أن هذه الحوادث الأمنية ترتدي طابعا خطيرا منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري، بسبب ما ولدته عملية اغتياله من شحن مذهبي خطير، كون الرئيس الشهيد كان الرمز السني الأكبر من دون منازع في لبنان، إضافة الى مكانته العربية والاقليمية والدولية.
وقد جاء التقرير الذي نشرته مجلة "دير شبيغل" الألمانية قبل شهرين تقريباً ليثير مجموعة من المخاوف الداخلية، في حال أثبت القرار الظني المنتظر صدوره في الأسابيع أو الأشهر القليلة المقبلة صحة المعلومات المنشورة في المجلة الألمانية، وخصوصا بعد الكلام المتكرر الصادر عن رئيس "اللقاء الديموقراطي" النائب وليد جنبلاط، والذي يعزز المخاوف في هذا الاتجاه. وكان الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله قد أعلن عقب قرار المحكمة الدولية الإفراج عن الضباط الأربعة أن "حزب الله" لن يقبل بقرارات المحكمة رغم صدور قرار صحيح بالإفراج عن الضباط.
وبناء على كل ما تقدم فإن المخاوف الأمنية الداخلية تتعاظم في حال توجيه القرار الظني أصابع الاتهام الى جهات وعناصر في "حزب الله" في قضية اغتيال الرئيس الحريري والاغتيالات الأخرى التي تلته.
كما أن ثمة حوادث أمنية أخرى لا تزال عالقة في الأذهان، ومنها قضية استشهاد النقيب الطيار سامر حنا في حادثة إطلاق النار على طوافة الجيش اللبناني في سجد، إضافة الى القضية - اللغز المتمثلة باختطاف المهندس جوزف صادر على بعد مئات الأمتار من مطار الرئيس رفيق الحريري الدولي. ولعل من الخطورة بمكان على الصعيد الأمني في الداخل استمرار التلويح والتهديد بـ"7 أيار" جديد كلما وصلت الأزمة السياسية الى طريق مسدود.
أما على الصعيد الخارجي، فتحتل التهديدات الإسرائيلية والانتهاكات المستمرة للسيادة اللبنانية البند الأول على قائمة المخاطر الخارجية، وخصوصا بعد انكشاف شبكات كثيرة زرعها "الموساد" الإسرائيلي في الداخل اللبناني. وفي موازاة ذلك تستمر المعسكرات الفلسطينية، والتي تخضع للأوامر السورية، خارج المخيمات مصدر قلق كبير للدولة اللبنانية، في ظل تمنع القيادة السورية عن تقديم أي بادرة حسن نية لحل هذا التهديد المستمر لسيادة الدولة اللبنانية.
ولا ينسى اللبنانيون أن واقع المخيمات الفلسطينية المستمر خارج سلطة الدولة اللبنانية أمنيا يجعل من هذه المخيمات ملاذا آمنا لجميع الخارجين عن القانون، إضافة الى الإشكالات الأمنية المتكررة التي تقع داخل هذه المخيمات بين المجموعات الفلسطينية المتناحرة.
وإضافة الى كل ما تقدم يبقى ملف سلاح "حزب الله" أكثر الملفات خطورة وحساسية نظراً الى تعقيداته وتشعباته الداخلية والإقليمية. ولذلك، يبقى هذا الملف مطروحا على طاولة الحوار الوطني في انتظار إنضاج الحل المناسب.
وفي الانتظار، تقوم الحكومة اللبنانية بما تيسّر لها من جهود في محاولة لضبط الأمن. وفي هذا الإطار نجحت الجهود التي قامت بها قوى الأمن الداخلي بإشراف وزير الداخلية والبلديات زياد بارود في مواجهات عدة مع عصابات سرقة السيارات، ما أدى الى تراجع هذه الظاهرة بشكل نسبي مقبول، كما نجحت في تحرير الفتى محمد أمين الخنسا الذي كان تم اختطافه بهدف الحصول على فدية مالية. كما تمكن الجيش اللبناني من ضبط الأوضاع أمنيا بعد إشكال عائشة بكار، وتحديدا بعدما أدت الاتصالات السياسية الى رفع الغطاء عن المخلين بالأمن.
ولكن المطلوب لا يزال كثيرا جدا للتوصل الى الانتهاء من منطق "الأمن بالتراضي" وفرض هيبة الدولة وحصر السلطة الأمنية بالجيش اللبناني والقوى الأمنية الشرعية وحدها. فهل يحق للبنانيين أن يحلموا بدولة قوية وآمنة أم أن مصير دولتهم مقدّر له أن يبقى معلقا في انتظار بلورة الحلول الإقليمية والدولية؟
التهديدات الإسرائيلية
حفلت الأشهر الأخيرة باكتشاف الأجهزة الأمنية اللبنانية، وعلى اختلافها وتعددها، عشرات الشبكات الأمنية التي تعمل لمصلحة إسرائيل في الداخل اللبناني. ولعل أخطر ما في هذه الشبكات أنها ضمّت أكثر من ضابط في الجيش اللبناني، وهذا ما يحصل للمرة الأولى وما يشكل تهديدا حقيقيا.
وكان فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي قد بدأ منذ 11 نيسان 2008 كشف الشبكات التي تعمل لمصلحة اسرائيل في الداخل اللبناني بعد أكثر من عامين من المراقبة والملاحقة والعمل الدؤوب بحسب ما كشفه مصدر أمني رفيع لـ"النهار".
وكشف المصدر أن شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي كانت تسرعت في المرة الأولى وبعد 6 أشهر فقط من المراقبة، فأوقفت أحد المتعاملين ولكنها لم تتوصل الى "صيد دسم"، فتقرر بعدها الاستمرار في العمل الجدي الهادئ وعدم التحرك قبل اكتمال المعلومات والصورة. وهكذا بالفعل حصل بعد أكثر من عامين من العمل المضني بحيث تمكنت شعبة المعلومات من ضرب 10 شبكات منفصلة تماما، وينضوي في كل شبكة 3 عملاء كحد أقصى.
وتؤكد المعلومات المتوافرة لـ"النهار" أن مخابرات الجيش اللبناني تمكنت أيضا من الوصول الى شبكات خطرة جدا وأوقفتها بناء على معلومات دقيقة ومتابعة محترفة.
ملف جوزف صادر
لا تزال جريمة اختطاف المهندس جوزف صادر ترخي بثقلها على المعنيين بالملف الأمني في لبنان. ويؤكد تقاطع المصادر الأمنية والمعلومات التي توافرت لـ"النهار" أن صادر ليس موقوفا لدى الأجهزة الأمنية اللبنانية وهو لم يكن موقوفا لديها البتة منذ تاريخ اختطافه. وتكشف معلومات موجودة أن أحد المغتربين اللبنانيين من بلدة صادر نفسها درب السيم كان قام بزيارة الى بلدته الأم بعد انقطاع طويل عن لبنان دام لعقود طويلة. وهذا الشخص وزع بعض الأراضي التي يملكها على عدد من أبناء بلدته، ومنهم عائلة صادر. وكان المهندس جوزف صادر رافق هذا المغترب خلال إقامته في لبنان فزار معه عدداً كبيراً من الأماكن الأثرية والدينية.
وبعد فترة اتصل به هذا المغترب وقال له إن نجله يرغب أيضا في زيارة مسقط رأسه، وخصوصا أنه لم يزر لبنان مطلقا قبلا. فأبدى استعداده لاستقباله والاهتمام به. لكن المفارقة كانت في أن نجل هذا المغترب عرّج على إسرائيل في طريقه الى لبنان. وهناك مكث لحوالى أسبوع لدى أصدقاء له. وكشفت المعلومات أن نجل هذا المغترب، وخلال وجوده في لبنان برفقة صادر، أجرى اتصالات هاتفية بإسرائيل، ما قد يكون السبب وراء اختطاف صادر، وخصوصاً أن الأجهزة الأمنية اللبنانية سعت الى الحصول على هذه المعلومات (Data) من وزارة الاتصالات فلم تفلح.
... وملف المحكمة الدولية
وفي ملف المحكمة الدولية تتابع لجنة التحقيق الدولية عملها الناشط في لبنان، وتتابع شعبة المعلومات مساعدتها الوثيقة لهذه اللجنة بهدف التوصل الى الحقيقة كاملة. وقد كلف هذا الملف القوى الأمنية جهدا ودما. فبعد محاولة اغتيال الرائد سمير شحادة في منطقة الرميلة ونجاته بأعجوبة، دفع الرائد الشهيد وسام عيد حياته ثمنا لجهده في إطار العمل مع لجنة التحقيق الدولية على متابعة ملف الاتصالات وتحديدا في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والاغتيالات ومحاولات الاغتيال التي سبقتها وتلتها.
وفي هذا الإطار تتابع شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي مهمتها في مساعدة لجنة التحقيق الدولية في كل المهمات التي تطلبها منها. ويكشف المصدر الأمني الرفيع لـ"النهار" أنه كان لشعبة المعلومات دور بارز في مساعدة اللجنة على التوصل الى تفاصيل دقيقة كثيرة يمكن أن تلعب دورا محوريا في التوصل الى كشف الحقائق كاملة. ويضيف أن التحقيقات تؤكد مبدئيا أن كل الاغتيالات ومحاولات الاغتيال التي شهدتها الأعوام الأخيرة من تنفيذ جهة واحدة.
سرقة السيارات
وفي عز فصل الصيف والسياحة، وفي ظل المخاوف الدائمة من عصابات السيارات وعمليات الاعتداء المسلح وسرقة السيارات التي تستهدف عددا من المناطق اللبنانية، أكد المصدر الأمني أن القوى الأمنية جادة في مواجهة كل عصابات سرقة السيارات بحزم وشدة لوقف هذه الآفة ومنع استمرار جرائم سرقة السيارات. ويلفت المصدر الى تراجع أعداد السيارات المسروقة من دون أن يعني ذلك التمكن حتى اليوم من إنهاء هذه الظاهرة. ولكن القرار متخذ، والقوى الأمنية ستقوم بواجباتها في حماية المواطنين وأملاكهم.
عناوين ومطالب
وفي قراءة سريعة لما يستمر بتهديد الهيبة الأمنية للدولة، يمكن تحديد استمرار وجود السلاح خارج إطار الشرعية، والمخيمات الفلسطينية الخارجة على سيطرة القوى الأمنية الشرعية، والمعسكرات الفلسطينية خارج المخيمات، والحدود البرية السائبة، والمربعات الأمنية الخاضعة لسلطة "حزب الله".
وللتمكن من أداء واجباتها في حماية أمن المواطنين وممتلكاتهم وأرزاقهم، لا بد من أن تلتفت الحكومة المقبلة الى المتطلبات المالية لتجهيز قوى الأمن الداخلي والجيش اللبناني بالعديد والعتاد اللازم، إضافة الى بعض التعديلات في القوانين التي ترعى عمل المؤسسات الأمنية بما يسمح بالمساواة بينها على صعيد آليات اتخاذ القرارات في مجلس القيادة.
كما قد يكون من المفيد وضع استراتيجية أمنية واضحة، في موازاة الاستراتيجية الدفاعية المنتظرة، تسمح بإعادة النظر في المؤسسات الأمنية بما يؤدي الى تفعيل أدائها. وقد يكون من المفيد في هذا الإطار إعادة النظر في المديرية العامة لأمن الدولة التي يلخص أحد المسؤولين السابقين ظروف إنشائها بأنها جاءت تلبية لمطلب من الطائفة الشيعية بأن يتولى مسؤول أمني منها قيادة مؤسسة أمنية فتم إنشاء هذه المديرية. ولذلك يسأل هذا المسؤول: بعدما أصبح المدير العام للأمن العام من أبناء الطائفة الشيعية ما هو مبرر استمرار المديرية العامة لأمن الدولة؟ وما المهمات التي تؤديها؟ وأليس من الأفضل لو يتم حلّ هذه المديرية وتحويل عديدها الى الجيش اللبناني والمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي بما يسمح بتغذية هاتين المؤسستين وتطوير أدائهما؟!
طوني أبي نجم