بعدما نشرت مراكبها الحربية في بحر العرب منذ القرن الخامس عشر، صعدت الصين إلى الفضاء لتصل إلى العالم العربي، هذه المرة من خلال بث قناة تلفزيونية صينية باللغة العربية عبر الأقمار الاصطناعية.
يعطي إطلاق قناة عربية لـ«تلفزيون الصين المركزي» («سي سي تي في» CCTV)، بعد ستة أقنية مماثلة لأميركا وروسيا وانكلترا وفرنسا، إنطباعاً بأن اللون الصيني ينضم بصرياً إلى خريطة سايكس بيكو للمنطقة العربية. مبالغة؟ لنر. لنقارن مع قناة «الحرّة» مثلاً. لقد أطلقت قناة «الحرّة»، في سياق غزو العراق، وضمن ما وُصف بأنه محاولة لكسب قلوب العرب والمسلمين. قبلها، لم تكن أميركا غائبة ثقافياً واقتصاديا وسياسياً عن العرب، بل كانت الأشد حضوراً بين دول العالم بينهم. وحتى في ذروة الحرب الباردة، لم تبث أميركا نفسها بالتلفزة المباشرة إلى العالم العربي، فاستمر معظم حضورها بصرياً من خلال أفلام هوليوود ومسلسلاتها، إضافة إلى صور المجلات والجرائد. وتكثّف حضورها في الاعلام المطبوع ورقياً إلى حدّ يفيض عن الوصف. في المقابل، لم تحضر الولايات المتحدة صوتياً إلا في إذاعة «صوت أميركا الحرّة» التي بقيت قليلة الجمهور في العالم العربي. حتى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانتصارها في الحرب الباردة، لم تبث أميركا نفسها عبر قناة تلفزيونية، على رغم توافر الوسائل التكنولوجية لذلك.
استلزم ظهور قناة «الحرّة»، وصول الدبابات والطائرات والمدمرات والأساطيل الى البلدان العربية والإسلامية. بمعنى آخر، استلزم بث قناة تعبّر عن أميركا عربياً، وصول المصالح الأميركية إلى نقطة تطلب القوة العسكرية المباشرة لحمايتها، مع ما يعني ذلك من سقوط النظام العربي استراتيجياً، بمعنى «إعلان» عدم قدرته على حماية المصالح الأميركية الاستراتيجية في بلدانه، خصوصاً النفط. لذا، ترافق إطلاق قناة «الحرّة» مع دعاوى «الشرق الأوسط الكبير» الذي تضمن مشروعاً أميركياً ضخماً، كما قيل حينها، لاستبدال كثير من النُظُم العربية، بأخرى أكثر قرباً إلى مفاهيم السياسة والاستراتيجية في الولايات المتحدة.
حضور لا يمكن تجاهله
بالعودة الى الشاشات، تتضمن الخطوة الصينية لإطلاق قناة تلفزيونية باللغة العربية الكثير من الشبه مع تجربة قناة «الحرّة». ومثل أميركا، ليست صين «العم ماو» بغريبة عن العالم العربي. هي حضرت بقوة أثناء الحرب الباردة في السياسة (مؤتمر باندونغ مثلاً). وحينها، تركز حضورها في وكالة أنباء متواضعة («شينخوا») تعمل من القاهرة، ويتعرض العاملون فيها لمضايقات بالتوازي مع تقلب العلاقات بين النظامين الناصري والماوي. وحضرت أيضاً من خلال مجلات مصورة تميّزت دوماً بأناقة صفحاتها وألوانها (مثل مجلة الصين المصورة) وكتب «ماو» التي لم تخل طباعتها من الأناقة والتكلف أيضاً وغيرها. وفي السياسة والحرب، حضرت بكثافة أكبر كثيراً، خصوصاً مع التجربة الفلسطينية والحرب في أفغانستان ضد الجيش السوفياتي. ومع انتهاء الحرب الباردة، لم توسّع الصين كثيراً في تواجدها إعلامياً. بقيت تعمل بأدواتها القديمة، خصوصاً في السياسة والاقتصاد. تدريجاً، توسّعت علاقاتها مع العالم العربي اقتصادياً. ولا داعي للتذكير بالسيول الهائلة من السلع الصينية التي تملأ العالم العربي، ربما لأنها تماثل ما يحدث في معظم الأسواق، إذ تسمى الصين «مصنع العالم»! وكذلك صار نبأً قديماً الحديث عن تواجد الصينيين مباشرة في مصر، مثلاً، كي يعملوا باعة متجولين فيها. وفي الآونة الأخيرة، باتت المصالح الصينية «الشبح الخفي» وراء أحداث السودان. إذ تمسك الصين بالمصالح النفطية في السودان، التي تتقاطع مع الصراع في دارفور والنزاع على منطقة «إيبيي» وغيرهما. وتوسّع الحضور الصيني اقتصادياً، عبر اتفاقيات نفطية مع السعودية أيضاً. وعادت مراكبها الى مياه العرب، بعد غياب استمر قروناً. وهناك أيضاً، تقاطع الوجود الصيني مع أول قاعدة بحرية فرنسية في الخليج، والوجود الكثيف الدائم للأسطول الأميركي هناك، وكذلك الحال بالنسبة إلى الأسطول البريطاني، والأسطول الإيراني المتذرع بقراصنة الصومال والأسطول الروسي الذي يألف تلك المياه منذ أيام وجوده في «جمهورية اليمن الديموقراطية» التي كانت تعرف أيضاً باسم اليمن الجنوبية. (أهي مصادفة أيضاً أن ثمة من يطالب بعودتها إلى الوجود الآن، بعد أن زالت في 1994)؟
ألا تبدو خريطة المرئي - المسموع متطابقة مع خريطة توزّع المصالح في السياسة والعسكر، خصوصاً أن الدول عينها التي تمتلك حضوراً عسكرياً في بحر العرب، توزّعت على خريطة الحضور بصرياً بحيث حازت أميركا «الحرّة» و«سي ان بي سي»، وفرنسا «فرانس 24» وبريطانيا «بي بي سي» (التي ترتكز الى ارث طويل في البث الإذاعي «بي بي سي») وروسيا «قناة روسيا اليوم» وإيران «العالم». وثمة ملاحظة لافتة. ففي زمن سايكس بيكو، التي شرع تطبيقها بعد الحرب العالمية الأولى، جاءت الجيوش أولاً، ثم تلاها الحضور المطبوع، ثم جاء زمن البث المسموع، بسبب تأخر التقنية في الظهور أصلاً.
فهل يكون مبالغة التفكير بأن الانهيار العربي الراهن يفتح الباب مجدداً أمام صراع الأمم عليه، وبالتالي دفعه الى سايكس بيكو أخرى، أشد تمزيقاً وتفتيتاً؟ مجرد سؤال.
Mon | Tue | Wed | Thu | Fri | Sat | Sun |
---|---|---|---|---|---|---|
31 | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 |
7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 |
14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 |
21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 |
28 | 29 | 30 | 1 | 2 | 3 | 4 |