كلوفيس مقصود
إشهار «تقرير التنمية الإنسانية العربية» في عاصمة لبنان، يؤكد لبنان الرسالة التي نستطيع أن نختزلها بكلمة «إقرأ» التي اختصرت لبنان الرسالة كما وردت في القرآن الكريم، وبعبارة «في البدء كانت الكلمة» كما وردت في الإنجيل المقدس (...).
والتقرير حصيلة توافق حيوي بين أعضاء المجلس الاستشاري حول ما ورد فيه من تقييم للأوضاع وربطها بالأحداث، ومن مقترحات لتعزيز قدرة الدولة في الوطن العربي والمجتمع على استيلاد تجسير مطلوب كاد أن يكون مغيباً.
التقرير يمهّد لتسريع عملية التجسير حتى لا يبقى هناك أي انطباع بفجوة قائمة بين الحكم والمجتمع. وهذا لن يحصل بالقدر المطلوب والمرغوب إلا إذا رسخنا مفهوم المواطنة عند الإنسان العربي. فالمواطنة توفّر الاحتفال بالتنوّع وترفض التعددية، وتمنح المواطن المناعة ضد الطائفية والقبلية والعشائرية والمذهبية والعرقية بقدر ما تمنحه من حقوق، وبالتالي ترسّخ الوحدة الوطنية وتحوّل علاقة المواطن بالدولة الى علاقة مباشرة بدون وساطات موروثة وتقليدية، وتجعل منه مساهماً في القرارات المصيرية للأمة وللأوطان المكونة لها. وبالتالي ترسخ الأسس الضامنة لأمنه وأمانه.
نشير الى هذا التشخيص لأنه لم يعد جائزاً في ظل المستجدات الحاصلة بتسارع غير مسبوق والتحديات التي باغتتنا دون أن نكون مهيئين للاستجابة لها. لم يكن عندنا التجارب لنواجهها ليس فقط على المستوى العربي بل حتى على المستوى الدولي. أمام هذا الوضع الشديد التعقيد لا بد من إدارته حتى لا يكون التعقيد محبطاً بل دافعاً للتقدم. لأنه إذا عجزنا عن إدارة التعقيدات فسوف نواجه حتمية إدارة الفوضى، وهذا ما يهدد الأمن والأمان لشعوب الأمة.
من هنا نجاعة هذا التقرير ـ الكتاب، بأنه استوعب ما يهدد الأمن الوطني والقومي من جهة، وما يهدد أمن الإنسان من جهة أخرى. وتهديدات أمن الإنسان لا تكون فقط نتيجة جرائم ترتكب وحسب، بل أيضاً نتيجة شيوع أدوات القمع والتهميش لأنها تودي الى شعور بالإذلال الذي بدوره يقارب مفارقة الحياة. والإذلال إذا لم يصحح فوراً يؤول إما الى استقالة المواطن من السعي الى الأفضل أو الى تمرّده.
لذلك فإن المطلوب من أجل استقامة المواطنة أن تغلب في مؤسساتنا وجامعاتنا ومدارسنا ومجتمعاتنا المدنية والأهلية عقلانية الأعصاب على غرائزية العصبيات.
وكما ورد في هذا التقرير ـ الكتاب أن مفهوم العروبة في وضع النظام القطري الذي يربط بين الأوطان العربية ـ في هذه الحالة أعضاء جامعة الدول العربية ـ ان قانونها السائد هو احترام متبادل لسيادة الدول القانوني. ولكن إذا كان هذا ينطوي على عدم التدخل، فإنه يجب أن لا يحول دون تعزيز التداخل بين شعوب الأمة العربية. هذا التداخل التلقائي الدافئ هو الذي يشكل ثروة تجعل التنسيق بين الأوطان والدول العربية ملزماً عندما تُتّخذ القرارات وتُعالجُ المعضلات. لأن معادلة الدول المتمتعة بالاستقلال الناجز لا تعني استقلال الأوطان العربية بعضها عن بعض لأن ما يجمعها أكثر بكثير مما يفرق بينها، ويجب أن يبقى هذا التداخل قائماً حتى تستطيع أن تعالج التحديات الصحية والبيئية وتغير المناخ وانتشار الأوبئة، وانعدام الأمن الغذائي، وكل ما يعطل التنمية المستدامة ويهدد حقوق الإنسان ويهمش فرص تمكين المرأة داخل الأوطان العربية وعلى الصعيد العربي العام (...) لقد وجدنا أن التفكيك بين الأوطان العربية من شأنه بشكل مباشر أو غير مباشر أن يؤول الى التفتيت داخلها. وهذه المآسي شهدناها في العراق وفي الصومال والى حد ما في السودان وربما الى حد أقل في عدد آخر من الدول العربية، ومنها لبنان.
ولكن حيث إن التفكك على المستوى العربي العام أصاب ما شكل لنا جميعاً وما زال وسيبقى، التزاماً قومياً ووطنياً وإنسانياً ووجدانياً لتحرير فلسطين وعودة القدس إليها.
والجدير بالذكر أن حكومة إسرائيل تمعن في إعلان حقها بتهويد القدس وكأن لا علاقة للعرب بها، لا تاريخياً، ولا حاضراً، ولا مستقبلاً، ولا قانونياً، ولا شرعياً، وكأنه لا قرارات صادرة عن الأمم المتحدة في هذا المجال. هذا آخر تعبير عن تهديد أمن الشعب الفلسطيني، وأمن دول الجوار وأمن المناعة العربية إجمالاً، كتجلًّ لعنصرية مضمرة في الفكر المؤسس لدولة إسرائيل. ولن يتحقق السلام الدائم إلا بإنهاء احتلال إسرائيل للأراضي التي استولت عليها في العام 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية كما ورد في التقرير ـ الكتاب.
ولكن هذا قليل من كثير لاستفزاز ضمير المجتمع الدولي مرة أخرى. وهو يفسر الحاجة الى تصوّر ناجع ومُستقطب للمقاومة ينطوي على مقوّمات الإجماع، في مواجهة عدوان لا يكتفي بتهديد أمننا القومي والوطني بل يسعى بدأب الى إخراجنا من التاريخ ومن قدرتنا على صناعة مستقبلنا.
وهناك فرصة متاحة توفرها الإدارة الأميركية الجديدة ورئيسها باراك أوباما لبلورة خطاب عربي واحد لإقناعه، وهو المنفتح على الحوار من خلال ما قد يعتبر منطقياً حسن نية أظهرها في طلبه تجميد المستوطنات. ومتابعة الحوار لا تكون باستئناف المباحثات مع إسرائيل في ظل وضع معطوب في فلسطين حيث تمعن إسرائيل في إصرارها على عدم الاعتراف بكونها محتلة، وبالتالي تتصرف في الأراضي المحتلة كأنها مالكة. وهذا بالطبع خرق لميثاق وقرارات الأمم المتحدة وشرعيتها الى حد كبير. وبالتالي، فإن توظيف الحوار ينطوي على إجابة واضحة وصريحة وغير ملتبسة على بادرة حسن النية، بأن المطلوب ليس تجميد المستوطنات بل تفكيكها. وعندما تقول إسرائيل للعالم إنها مستعدة للقيام بتنازلات أليمة، فجواب الخطاب العربي يجب أن يختصر بأن التنازل يكون عما تمتلك لا عن ما تحتل بالقوة!
من هنا تركيز هذا التقرير على مقتضيات الأمن للإنسان وللوطن وللأمة.
أمن الإنسان العربي شرط مسبق لتوفير أمانه، بمعنى أن الأمان هو أن يتمتع بحقوقه وتلبية حاجاته، لا كمنحة بل كحق من تعليم وصحة. كما أن أمانه أيضاً أن تُوفّر له المناعة الصحية خاصة في أوضاع انتشار الأمراض والأزمة العالمية للغذاء، وان يتم تحسين البيئة واستيعاب التحديات المستجدة من تغيّر المناخ والاحترار العالمي. كما انه لا أمان بدون الأمن، ولا أمن للإنسان بدون الأمن للوطن. كذلك الأمر لا أمان للإنسان إلا إذا استوعب نظام الحكم والمجتمعات المدنية في البلدان العربية الأخطار الجديدة التي أشرنا إليها مثل تغير المناخ والأمراض السريعة الانتشار.
وإذا لم يتسلّح الإنسان العربي بحق المساءلة فقد يصبح عرضة للاستباحة. وهذا يتطلّب ضرورة فصل السلطات القانونية والتشريعية والقضائية حتى يبقى للإنسان العربي مرجعية حاضنة وضامنة لحقوقه. وأخيراً هناك ثوابت نحرص عليها لأنها ثوابت ملتزمة بالأمن والأمان تؤكد ربط الحرية بالمساواة بهدف إنجاز العدالة. ولكن ما يبقى هو تأكيد الالتزام بهذه الثوابت (...).
[ أستاذ القانون الدولي، مدير معهد دراسات عالم الجنوب في الجامعة الأميركية في واشنطن
Mon | Tue | Wed | Thu | Fri | Sat | Sun |
---|---|---|---|---|---|---|
31 | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 |
7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 |
14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 |
21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 |
28 | 29 | 30 | 1 | 2 | 3 | 4 |