في دلالات الاقــــتــــراع بــــورقــــــة بيضـــــــاء بقلم عايدة الجوهري

بلا محطات تلفزيونية تنبض على انفاس جمهورها ليل نهار، ولا صحف تهلل وتحتضن، ولا مهرجانات تعبوية وخطابات تحذيرية تخويفية، ولا لوحات اعلانية عملاقة، ولا سيارات جوالة مزدانة بأعلام حزبية ودينية تبث أناشيد تحريضية وخطباً قديمة مفوّتة، وبلا شعارات تهويلية، ولا ألوان ولا إشارات حزبية تمييزية، ولا مندوبين او انصار علنيين "متضامنين" او مفاتيح انتخابية او مندوبين مرابطين خُلص، ولا شركات نقل تنتزع الناخبين من بيوتهم، وتخرج المنتسبين والمهمشين من جحورهم، ولا رشى غير مباشرة، قديمة وممنهجة كالخدمات الاجتماعية، او مباشرة، لحظية وطارئة، بمعنى آخر لا مال سياسي نظيف او ملوث، وفوق ذلك، بلا أي شبكة تنظم إداءهم، إقترع 11,500 بالورقة البيضاء، وألغى تسعة آلاف لبناني إنتخابهم، وأحجم 46% من اللبنانيين عن الاقتراع، رغم الإغراءات. كم تبلغ إذاً نسبة الأصوات التي حازها الفريقان المتخاصمان المتنافسان، كل على حدة من مجموع أصوات اللبنانيين؟
9000 ورقة ملغاة، بعضها يُلغى لأسباب تقنية، لهفوات إرتكبها الناخبون، لنقص في تفصيل الثقافة الانتخابية التقنية ولكن معظمها يُلغى لإحتوائها على جمل إحتجاجية إستنكارية، او تشطيب أسماء مجموع المرشحين، وفي الحالتين يعبّر الناخب عن عنف سياسي مكتوم، عن شعور بالقرف والإمتعاض، والعجز عن التأثير في مجرى الأحداث، ويظن الناخب الذي ألغيت عمداً ورقته، ان الورقة البيضاء أقل تعبيراً وإيحاء ونفوذاً من الورقة المحمّلة بجملة هجومية أو ساخرة، تخشى الجماهير الورقة – الصفر، تخشى إعادة العداد الى الصفر، تخشى الفراغ والبياض، وتؤثر ملأه كيفما اتفق.
أما الذين أحجموا عن الإقتراع ولزموا بيوتهم، أو هربوا منها كتعبير إحتجاجي صامت، تفادوا، على الأرجح، عيون المحازبين المرابضين على أبواب أقلام الإقتراع، ولو على مسافة من المداخل، كما فرضتها القوانين الجديدة مستدركة، بحق، ما يمارسه هؤلاء من ضغوط وإغراءات. ولتفادي النظر في عيون المندوبين الحافظين لميراث المرشحين، سنحصر من جهتنا النقاش في ظاهرة الإقتراع بورقة بيضاء وفي السياقات التي ترافقها، لأن المقترعين بها عبروا عن قدر من الجدية تفتقر اليه الورقة الملغاة عمداً، عن إنتظارات واضحة جداً أو غائمة، وفقاً لهوية مستعملها ودرجة ثقافته ووعيه السياسيين، ولأن هؤلاء يملكون "كودا" سرياً يتراسلون عبره، دون ان يتعارفوا، يقضي بإرسال رسائل لأولياء الأمور، لحثهم على إستدراك المشكلة السياسية، بالإضافة الى غضبهم واستيائهم.
بداية يلفتنا تجاهل وسائل الاعلام على انواعها، وخبراء الإنتخابات "الرقميين"، والمحللين السياسيين، لظاهرة الورقة البيضاء، وهو تهميش غير عفوي حكماً، علماً ان هؤلاء جهدوا في تعيين سيرورة اصوات كل طائفة من الطوائف الـ18 وتوظيفها في الصراع وحجم الحصص، حتى ان وزير الداخلية لم يذكر عدد الأوراق والملغاة سوى في دائرة واحدة، كانت الأولى في الترتيب، وأهملها في باقي الدوائر، عله كان مأخوذاً بالأرقام الحامية، الى درجة توجب فيها على المعني بالموضوع التقصي الدؤوب في ثنايا الصحف التي ذكرتها، وإحتساب الأرقام.
يفصح هذا التغاضي الإعلامي والرسمي عن عدد المقترعين بورقة بيضاء او ملغاة، عن وقوع هذه المواقف الشعبية السياسية في دائرة المحرّم والمحظور، وربما أسوأ، في دائرة اللامعنى!
ليست دوافع المقترعين بورقة بيضاء متماثلة، ولا تنم احياناً عن اهتمام حقيقي بالشأن العام، فبعض الأفراد لجأوا للورقة البيضاء لمجرد لفت النظر الى مشكلة فردية او موضعية، كتعبير بعض الأفراد عن خصومة حزبية آنية، او تعبير آخرين عن عدم تلبية المسؤولين لحاجة مخصوصة، كالتعويض عن أضرار التهجير او الرغبة في العودة، ولكن هذه الدوافع تنطبق على شريحة محددة لا على مجموع المقترعين بورقة بيضاء الذين عبروا الطوائف والدوائر واخترقوا القلاع السياسية "المحسومة". (انظر الجدول المرفق)
استطاع المقترع "الابيض" تحييد المؤثرات الدعائية، والتعبوية وتفريغ العناوين من محتواها ورفض مبدأ تحويل الانتخابات الى مجرد إستفتاء على شكل وقوام الاستراتيجية الدفاعية ومشاكل لبنان الأمنية، على أهميتها، كون الانتخابات تعيد تشكيل السلطة التي تدير مجمل شؤون الناس العامة المشتركة وكذلك الخاصة بعلاقة جدلية.
عموما اقترع بورقة بيضاء من استطاع تحييد كل المؤثرات الراهنة والتاريخية، داعياً الى الإنطلاق من الصفر الى المباشرة بإعادة النظر، والتساؤل الجدي عن جدوى وفاعلية وأحقية ما اعتمد من أنظمة وسياسات. تفتش الورقة عن مرشحين مجهولين، هيولين قيد التكون، وتعي ضمناً خطورة الإقتراع بالأسود.
يعلم المقترع "الأبيض"، أن تلوين صوته الأبيض بأسماء مرشحين لن يؤدي سوى الى إعادة صياغة أمر واقع يحبطه، وأنه يحيا في بلاد لا تنتصر فيها أفكار ومبادىء وتطلعات ورغبات أياً كانت صوابيتها وبداهتها، وأن المطامح السياسية المتناقضة تتعايش وتتصارع حتى التعطيل والنزف والفوضى، في لعبة رياضية غريبة، قائمة على التعادل القسري بين اللاعبين، هو يعلم أن هذا التلوين يساهم في بعث الأزمات من جديد.
ينطلق المقترع "الابيض" من الصفر، يدعو الى ملء البياض، الى وجوب البحث عن بدائل وحلول الى الإقرار الحقيقي والصادق بوجود مشكلة بنيوية. إن إقتراعه يساهم بمعنى ما في اعادة إنتاج النظام بالذات بتكريسه لا بإعادة إنتاج الطبقة السياسية فحسب.
هو يعرف ان قانون الإنتخاب أعد للتكريس والتطويب ولإيصاد الأبواب أمام أي إحتمال للتعبير، ولإستئناف ما بوشر به من لعب بالنار، ولكنه لم يفقد الامل وقرر الإقتراع.
خلافاً لما يظن عامة الناس، لنقص في الثقافة السياسية والانتخابية، ليست الورقة البيضاء بيضاء، بل محملة بالأفكار والتطلعات والرغبات، المتفاوتة في عمقها وحدتها، التي لا تجد مسارب لها. هو شخص معني بالشأن العام ومبادر، إختار الإحتجاج المدني. هو نوع من العصيان المدني، الإنتخابي، بدل السكون والاعتكاف.
بتجاوزه "حملات" التحريض والتخويف، وبصموده أمام تصلب الجماعة وإنصهارها الحديدي، يقوم المقترع الأبيض، المدرك، بتمرين فكري وذهني ووجداني وعاطفي خاص، تخلص معه من الأفكار المسبقة، بصفتها حقائق غير قابلة للشك، منصتاً لعقله، الموجود ضمناً بالقوة لدى جميع المقترعين، متيحاً لهذا العقل إعادة النظر والشك في طروحات تُقدم كحقيقة نهائية، كأمر محتوم، كقدر لا مفر منه، ويبادر بالتالي الى إنتاج معرفته وإدراكه عبر التفكير بحرية مطلقة.
هو تمرين يحطم خلاله العقل الأصنام الموجودة التي لا تنحصر بالولاء المطلق لزعماء سياسيين محليين، بل لمجموعة مقولات ومفاهيم وأقوال متوارثة أو مكتسبة حديثاً، يعتمدها كأدوات قياس ثابتة نهائية مطلقة ولا لبس فيها، كأن يقال مثلا: ان هذا هو البلد وهذا هو نظامه الأمثل وأن قدره أن يكون ما هو عليه.
ما هي الحرية أساساً؟ أليست معرفية وإدراكية ووجدانية أولا ثم خارجية ثانياً؟ هو تالياً تمرين يتدرب عبره الفرد، وعبر غيره من الممارسات الفردية المدروسة والواعية على التملص والتحرر من سلطة الجماعة المتمثلة بالأفراد المحيطين به والممتدة الى الجماعة الأوسع وهذه الجماعة الأوسع في لبنان هي الطائفة الدينية.
اعتدنا الحديث عن السلطة العمودية التي يما رسها الحاكمون على محكوميهم لا عن تلك التي يمارسها المحكومون على نظرائهم والتي تشكل احدى ركائز السلطة ا لعمودية.
ليست الورقة البيضاء إبتكاراً لبنانياً ولو كانت فكرة الإعتراض إنسانية وعامة، وأزلية، ولكن إعتمادها ها هنا يأخذ أبعاداً مختلفة عن تلك التي تسمى "الورقة البيضاء" المستعملة في بلد اوروبي مثلا، حاولنا ها هنا رسم بعض دلالاتها.
تستحق ظاهرة الأوراق البيضاء وتلك الملغاة عمداً، دراسة علمية، تدرس فيها دوافع المقترعين والسياقات التي إقترعوا بها وإنتظاراتهم، كما دوافع أولئك الذين أحجموا كلياً عن الإقتراع.
لائحة بأعداد الأوراق البيضاء والملغاة وفق الدوائر

دائرة بيروت الأولى:
ملغاة 201
بيضاء 183

دائرة بيروت الثانية:
ملغاة 450
بيضاء 315

دائرة بيروت الثالثة:
ملغاة 750
بيضاء 991

دائرة طرابلس:
ملغاة 1038
بيضاء 1027

دائرة بشري:
ملغاة 126
بيضاء 134

دائرة صور:
ملغاة 640
بيضاء 1073

دائرة مرجعيون– حاصبيا:
ملغاة 536
بيضاء 506

دائرة المنية الضنية:
ملغاة 495
بيضاء 436

دائرة كسروان:
ملغاة 266
بيضاء 215
دائرة جزين:
ملغاة 117
بيضاء 113

دائرة بعلبك الهرمل:
ملغاة 776
بيضاء 769

دائرة البقاع الغربي – راشيا:
ملغاة 402
بيضاء 264

دائرة زغرتا:
ملغاة 221
بيضاء 175

دائرة عاليه:
ملغاة 577
بيضاء 1013

دائرة البترون:
ملغاة 129
بيضاء 117

دائرة بنت جبيل:
ملغاة 42
بيضاء 783

دائرة عكار:
ملغاة 778
بيضاء 354

دائرة بعبدا:
ملغاة 526
بيضاء 414
دائرة النبطية:
ملغاة 67
بيضاء 92

دائرة المتن:
ملغاة 439
بيضاء 460

دائرة قرى صيدا:
ملغاة 0
بيضاء 0

دائرة الكورة:
ملغاة 178
بيضاء 161

دائرة جبيل:
ملغاة 0
بيضاء 0

دائرة زحلة:
ملغاة 0
بيضاء 0

دائرة صيدا:
ملغاة 0
بيضاء 0

دائرة الشوف:
ملغاة 1029
بيضاء 1502

(استاذة في الجامعة اللبنانية)